مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ} (13)

واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال : { { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : يوم يقول ، بدل من يوم ترى ، أو هو أيضا منصوب باذكر تقديرا .

المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده انظرونا مكسورة الظاء ، والباقون أنظروا ، قال أبو علي الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب ( أحدها ) : أن تريد به نظرت إلى الشيء ، فيحذف الجار ويوصل الفعل ، كما أنشد أبو الحسن :

ظاهرات الجمال والحسن ينظرن *** كما ينظر الأراك الظباء

والمعنى ينظرن إلى الأراك ( وثانيها ) : أن تريد به تأملت وتدبرت ، ومنه قولك : إذهب فانظر زيدا أيؤمن ، فهذا يراد به التأمل ، ومنه قوله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال ، انظر كيف يفترون على الله الكذب ، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } قال : وقد يتعدى هذا بإلى كقوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وهذا نص على التأمل ، وبين وجه الحكمة فيه ، وقد يتعدى بفي ، كقوله : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } ، { أولم يتفكروا في أنفسهم } و( ثالثها ) : أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله :

ولما بدا حوران والآل دونه *** نظرت فلم تنظر بعينك منظرا

والمعنى نظرت ، فلم تر بعينك منظرا تعرفه في الآل قال : إلا أن هذا على سبيل المجاز ، لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالبا أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال : ويجوز أن يكون قوله : نظرت فلم تنظر ، كما يقال : تكلمت وما تكلمت ، أي ما تكلمت بكلام مفيد ، فكذا هنا نظرت وما نظرت نظرا مفيدا ورابعها ) : أن يكون النظر بمعنى الانتظار ، ومنه قوله تعالى : { إلى طعام غير ناظرين إناه } أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه ، وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت ، ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير ، كقولهم : شويت واشتويت ، وحقرت واحتقرت ، إذا عرفت هذا فقوله : { انظرونا } يحتمل وجهين ( الأول ) : انظرونا ، أي انتظرونا ، لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة ، والمنافقون مشاة ( والثاني ) : أنظرونا أي أنظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، والنور بين أيديهم فيستضيئون به ، وأما قراءة ( أنظرونا ) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال ، ومنه قوله تعالى : { أنظرني إلى يوم يبعثون } وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنظار المعسر ، والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم .

واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة ، وقد ظهر الآن وجه صحتها .

المسألة الثالثة : اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة ( أحدها ) : أن يكون الناس كلهم في الظلمات ، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار ، والمنافقون يطلبونها منهم ( وثانيها ) : أن تكون الناس كلهم في الأنوار ، ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعا ، والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار ( وثالثها ) : أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات ، ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم ، فإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند الموقف ، فالمراد من قوله : { انظرونا } انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم ، فقد أقبلوا عليهم ، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار ، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة ، كان المراد من قوله : { انظرونا } يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم .

المسألة الرابعة : القبس : الشعلة من النار أو السراج ، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل ، لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا ، فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة ، قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله ، ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ، فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء ، ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين ، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين : { انظرونا نقتبس من نوركم } كقبس النار .

المسألة الخامسة : ذكروا في المراد من قوله تعالى : { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } وجوها ( أحدها ) : أن المراد منه : ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك ، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية ، والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة ، والمراد من ضرب السور ، هو امتناع العود إلى الدنيا ( وثانيها ) : قال أبو أمامة : الناس يكونون في ظلمة شديدة ، ثم المؤمنون يعطون الأنوار ، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق : { انظرونا نقتبس من نوركم } فيقال لهم : { ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } قال : وهي خدعة خدع بها المنافقون ، كما قال : { يخادعون الله وهو خادعهم } فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا ، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا بينهم وبين المؤمنين ( وثالثها ) : قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين : { ارجعوا } منع المنافقين عن الاستضاءة ، كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك ، فعلى هذا القول المقصود من قوله : { ارجعوا } أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب البتة ، لا أنه أمر لهم بالرجوع .

قوله تعالى : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : اختلفوا في السور ، فمنهم من قال : المراد منه الحجاب والحيلولة أي المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين ، وقال آخرون : بل المراد حائط بين الجنة والنار ، وهو قول قتادة ، وقال مجاهد : هو حجاب الأعراف .

المسألة الثانية : الباء في قوله : { بسور } صلة وهو للتأكيد والتقدير : ضرب بينهم سور كذا ، قاله الأخفش ، ثم قال : { له باب } أي لذلك السور باب { باطنه فيه الرحمة } أي في باطن ذلك السور الرحمة ، والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين { وظاهره } يعني وخارج السور { من قبله العذاب } أي من قبله يأتيهم العذاب ، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة ، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب ، والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور ، ولذلك السور باب ، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور ، والكافرون يبقون في العذاب والنار .