الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ} (13)

قوله تعالى : " يوم يقول المنافقون " العامل في " يوم " " ذلك هو الفوز العظيم " . وقيل : هو بدل من اليوم الأول . " نقتبس من نوركم " قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر ، والنظر الانتظار أي انتظرونا . وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب " أنظرونا " بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار . أي أمهلونا وأخرونا ، أنظرته أخرته ، واستنظرته أي استمهلته . وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني انتظرني ، وأنشد لعمرو بن كلثوم :

أبا هند فلا تعجل علينا *** وأنْظِرْنا نُخَبِّركَ اليقينا

أي انتظرنا . " نقتبس من نوركم " أي نستضيء من نوركم . قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي : أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه . قال المفسرون : يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم ، دليله قوله تعالى : " وهو خادعهم{[14708]} " [ النساء : 142 ] . وقيل : إنما يعطون النور ، لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر ، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه ، قاله ابن عباس . وقال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور . وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور ، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين ، فذلك قوله تعالى : " ربنا أتمم لنا نورنا " [ التحريم : 8 ] يقول المؤمنون ، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين : " انظرونا نقتبس من نوركم " . " قيل ارجعوا وراءكم " أي قالت لهم الملائكة " ارجعوا " . وقيل : بل هو قول المؤمنين لهم " أرجعوا وراءكم " إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا . فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور " فضرب بينهم بسور " وقيل : أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا . " بسور " أي سور ، والباء صلة . قاله الكسائي . والسور حاجز بين الجنة والنار . وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم . " باطنه فيه الرحمة " يعني ما يلي منه المؤمنين " وظاهره من قبله العذاب " يعني ما يلي المنافقين . قال كعب الأحبار : هو الباء الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة . وقال عبدالله بن عمرو : إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد " وظاهره من قبله العذاب " يعني جهنم . ونحوه عن ابن عباس . وقال زياد بن أبي سوادة : قام عبادة بن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى ، وقال : من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم . وقال قتادة : هو حائط بين الجنة والنار " باطنه فيه الرحمة " يعني الجنة " وظاهره من قبله العذاب " يعني جهنم . وقال مجاهد : إنه حجاب كما في " الأعراف " وقد مضى القول فيه{[14709]} . وقد قل : إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين .


[14708]:راجع جـ 5 ص 421.
[14709]:راجع جـ 7 ص 211.