{ 31 } { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }
أي : قد خاب وخسر ، وحرم الخير كله ، من كذب بلقاء الله ، فأوجب له هذا التكذيب ، الاجتراء على المحرمات ، واقتراف الموبقات { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ } وهم على أقبح حال وأسوئه ، فأظهروا غاية الندم . و { قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } ولكن هذا تحسر ذهب وقته ، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } فإن وزرهم وزر يثقلهم ، ولا يقدرون على التخلص منه ، ولهذا خلدوا في النار ، واستحقوا التأبيد في غضب الجبار .
ويستكمل السياق المشهد الذي ختمه هناك بهذا القضاء العلوي تنسيقا له مع الجلال والروعة والهول . . يستكمله بتقرير حقيقته :
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله . حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ! ) . .
فهي الخسارة المحققة المطلقة . . خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى . . وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا . . والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حسابا :
( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ! ) . .
ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال :
( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ) . .
بل الدواب أحسن حالا . فهي تحمل أوزارا من الأثقال . ولكن هؤلاء يحملون أوزارا من الآثام ! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح . وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم . مشيعين بالتأثيم :
هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم ، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه ، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء ، والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا ، وقوله : { بلقاء الله } معناه : بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته ، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها ، و { الساعة } يوم القيامة ، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله تعالى : { بلقاء الله } وبغتة معناه فجأة ، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر :
ولكنهم تابوا ولم أخش بغتة . . . وأفظع شيء حين يفجأك البغت{[4887]}
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبراً ، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه{[4888]} .
ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه ، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك ، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع ، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع ، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل ، ونحو هذا{[4889]} .
و { فرطنا } معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير ، وهذه حقيقة التفريط ، والضمير في قوله { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها ، وهذا قول الحسن ، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية . ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها ، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ، وعوده على { الساعة } إنما معناه في أمورها والاستعداد لها ، بمنزلة زيد في العلم مشتغل .
وقوله تعالى :{ وهم يحملون أوزارهم } الآية ، الواو واو الحال ، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب ، تقول منه وزر يزر إذا حمل ، قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[4890]} وتقول وزر الرجل فهو موزور ، قال أبو عبيدة : والعامة تقول : مازور ، وأما إذا اقترن ذلك مأجور فإن العرب تقول : مأزور ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر : «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[4891]} قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي ، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال ، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال ، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة ، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبراً أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفرحها فيسلم عليه ويقول له : طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم ، قال فيحمله تمثال العمل ، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول : أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم ، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره{[4892]} . وقوله تعالى : { ألا ساء ما يزرون } إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، وقوله ألا هل بلغت{[4893]} ، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه { ألا } ، وأما { ساء ما يزرون } فهو خبر مجرد كقول الشاعر : [ البسيط ]
رَضِيت خِطَّةَ خَسْفٍ غًيْرَ طَائِلَةٍ . . . فَسَاءَ هَذا رِضى يا قَيْس غيلانَا
و { ساء } فعل ماضٍ و { ما } فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا ، ويحتمل أن تجري { ساء } هنا مجرى بئس ، ويقدر ما يقدر ل «بئس » إذ قد جاء في كتاب الله { ساء مثلاً القوم }{[4894]} .