32- قل لهم - يا محمد - منكراً عليهم افتراء التحليل والتحريم على الله : مَنْ الذي حرَّم زينة الله التي خلقها لعباده ؟ ومن الذي حرم الحلال الطيب من الرزق ؟ قل لهم : هذه الطيبات نعمة من الله ما كان ينبغي أن يتمتع بها إلا الذين آمنوا في الدنيا ، لأنهم يؤدون حقها بالشكر والطاعة ، ولكن رحمة الله الواسعة شملت الكافرين والمخالفين في الدنيا ، وستكون هذه النعم خالصة يوم القيامة للمؤمنين ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، ونحن نفصل الآيات الدالة على الأحكام على هذا المنوال الواضح ، لقوم يدركون أن الله - وحده - مالك الملك بيده التحليل والتحريم .
يقول تعالى منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه ، أي : مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد ، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه ؟ " .
وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : لا تبعة عليهم فيها .
ومفهوم الآية أن من لم يؤمن باللّه ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها ، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة .
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : نوضحها ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات ، ويعلمون أنها من عند اللّه ، فيعقلونها ويفهمونها .
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد ، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب . بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده ، وتحريم الطيبات من الرزق . فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات . فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله :
( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )?
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس ، وهذه الطيبات من الرزق ، هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا ، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا :
( قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ) . .
ولن يكون الشأن كذلك ، ثم تكون محرمة عليهم ؛ فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام !
( كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) .
والذي ( يعلمون ) حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان .
و{ زينة الله } هي ما حسنته الشريعة وقررته .
وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها ، وقوله : { والطيبات } قال الجمهور يريد المحللات ، وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات .
قال القاضي أبو محمد : إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال ، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة .
وقوله تعالى : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } .
قرأ نافع وحده «خالصةٌ » بالرفع والباقون «خالصةً » بالنصب ، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا ، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون ، فقوله { في الحياة الدنيا } متعلق ب { آمنوا } . وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير ، فإنه قال { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها ، وقوله «خالصةٌ » بالرفع خبر هي ، و { للذين } تبيين للخلوص ، ويصح أن يكون خالصة خبراً بعد خبر ، و { يوم القيامة } يريد به وقت الحساب ، وقرأ قتادة والكسائي «قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا » ، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضاً لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة ، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد ، فقوله : { في الحياة الدنيا } على هذا التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله { للذين آمنوا } كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا ، و «خالصةٌ » بالرفع خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء مقدر تقديره : وهي خالصة يوم القيامة ، و { يوم القيامة } يراد به استمرار الكون في الجنة ، وأما من نصب «خالصةً » فعلى الحال من الذكر الذي في قوله { للذين آمنوا } ، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم ، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله { للذين } . وقال أبو علي في الحجة : ويصح أن يتعلق قوله : { في الحياة الدنيا } بقوله { حرم } ولا يصح أن يتعلق ب { زينة } لأنها مصدر قد وصف ، ويصح أني يتعلق بقوله { أخرج لعباده } ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله : { قل هي للذين آمنوا } لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جداً كما جاء في قوله : { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة } فقوله { وترهقهم ذلة } معطوف على { كسبوا } داخل في الصلة ، والتعلق ب { أخرج } هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله : { والطيبات } . ويصح أن يتعلق بقوله : { من الرزق } ويصح أن يتعلق بقوله { آمنوا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا ، وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي ، وإنما يظهر أن يتعلق المحذوف المقدر في قوله { للذين آمنوا } وقوله تعالى : { كذلك } تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به ، و { نفصل } معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.