الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (32)

وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ } : استفهامٌ معناه التوبيخُ والإِنكار ، وإذا كان للإِنكارِ فلا جوابَ له إذ لا يُراد به استعلامٌ ، ولذلك نُسِب مكي إلى الوهم في زعمه أن قوله : قل هي للذين آمنوا إلى آخره جوابه .

وقوله { مِنَ الرِّزْقِ } حالٌ من " الطيبات " . قوله " خالصة " قرأها نافع رفعاً ، والباقون نصباً . فالرفع من وجهين أحدهما : أن تكون مرفوعةً على خبر المبتدأ وهو " هي " ، و " للذين آمنوا " متعلِّقٌ ب " خالصة " ، وكذلك يوم القيامة ، وقال مكي : " ويكون قوله للذين تبييناً " . قلت : فعلى هذا تتعلق بمحذوف كقولهم : سَقْياً لك وجَدْعاً له . و " في الحياة الدنيا " متعلِّقٌ بآمنوا ، والمعنى : قل الطيبات/ خالصة للمؤمنين في الدنيا يوم القيامة أي : تَخْلُص يومَ القيامة لِمَنْ آمن في الدنيا ، وإن كانت مشتركاً فيها بينهم وبين الكفار في الدنيا ، وهو معنى حسن . وقيل : المراد بخلوصها لهم يوم القيامة أنهم لا يُعاقبون عليها ، وإلى تفسير هذا نحا سعيد بن جبير .

الثاني : أن يكون خبراً بعد خبر ، والخبر الأول قوله " للذين آمنوا " ، و " في الحياة الدنيا " على هذا متعلِّقٌ بما تعلق به الجارُّ من الاستقرار المقدر ، ويوم القيامة معمولٌ لخالصة كما مَرَّ في الوجه قبله ، والتقدير : قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، وهي خالصة لهم يوم القيامة ، وإن كانوا في الدنيا يُشاركهم الكفار فيها . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجه لم يُعَلِّقْ " في الحياة " إلا بالاستقرار ، ولو عَلَّق بآمنوا كما تقدَّم في الوجهِ قبله لكان حسناً وكون " خالصة " خبراً ثانياً هو مذهبُ الزجاج ، واستحسنه الفارسي ثم قال : " ويجوز عندي " ، فذكر الوجه الأول كما قررته ولكن بأخصر عبارة .

والنصبُ من وجهٍ واحد وهو الحال ، و " للذين آمنوا " خبر " هي " فيتعلق بالاستقرار المقدر ، وسيأتي أنه يتعلَّق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم .

و { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } على ما تقدَّم مِنْ تعلُّقِه بآمنوا أو بالاستقرار المتعلِّق به " للذين " . و " يوم القيامة " متعلِّقٌ أيضاً بخالصة ، والتقدير : قل الطيباتُ كائنةٌ أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حالَ كونهم مقدَّراً خلوصُها لهم يوم القيامة . وسَمَّى الفراء نصبَها على القطع فقال : " خالصةً نصبٌ على القطع " ، وجعلَ خبر " هي " في اللام التي في قوله " للذين " . قلت : يعني بالقطع الحال .

وجوَّز أبو علي أن يتعلق { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بمحذوف على أنه حال ، والعامل فيها ما يعمل في " للذين آمنوا " .

وجَوَّزَ الفارسي وتبعه مكي أن يتعلق " في الحياة " بحرَّم ، والتقدير : مَنْ حرَّم زينةَ الله في الحياة الدنيا ؟ وجوَّز أيضاً أن يتعلق بالطيبات ، وجوَّز الفارسيُّ وحدَه أن يتعلق بالرزق . ومنع مكي ذلك قال : " لأنك قد فَرَّقْتَ بينهما بقوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني أن الرزقَ مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول ، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية ، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش .

وجوَّز الأخفش أن يتعلق " في الحياة " بأخرج أي : أخرجها في الحياة الدنيا . وهذا قد ردَّه عليه الناسُ ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } وقولُه { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وذلك أنه لا يُعْطَفُ على الموصول إلا بعد تمام صلته ، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته ، لأنَّ " التي أَخْرَجَ " صفة لزينة ، و " الطيبات " عطف على " زينة " . وقوله : " قل هي للذين " جملة أخرى قد فَصَلَت على هذا التقدير بشيئين .

قال الفارسي كالمجيب عن الأخفش : " ويجوز ذلك وإن فُصِل بين الصلة والموصول بقوله : { هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لأنَّ ذلك كلامٌ يَشدُّ الصلة وليس بأجنبي منها حَدَّاً كما جاء ذلك في قوله : { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] ، فقوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوفٌ على " كَسَبُوا " داخلٌ في الصلة " . قلت : هذا وإن أفاد في ما ذكر فلا يفيد في الاعتراضِ الأولِ ، وهو العطفُ على موصوفِ الموصول قبل تمام صلته إذ هو أجنبيٌّ منه ، وأيضاً فلا نُسَلِّم أن هذه الآية نظيرُ آيةِ يونس فإن الظاهرَ في آية يونس أنه ليس فيها فصلٌ بين أبعاضِ الصلة . قوله : { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } معترض ، و " ترهقهم " عطف على " كَسَبوا " قلنا ممنوع ، بل { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هو خبر الموصول فيُعْترض بعدم الرابط بين المبتدأ والخبر ، فيُجاب بأنه محذوفٌ ، وهو مِنْ أحسنِ الحذوفِ لأنه مجرور ب مِنْ التبعيضية ، وقد نصَّ النحاة على أن ما كان كذلك كَثُر حَذْفُه وحَسُنَ ، والتقدير : والذين كسَبُوا السيئاتِ جزاءُ سيئة منهم بمثلها ، فجزاءُ سيئةٍ مبتدأ و " منهم " صفتُها ، و " بمثلها " خبره ، والجملةُ خبرُ الموصولِ وهو نظيرُ قولِهم : " السَّمْن مَنَوان بدرهم " أي : منوان منه ، وسيأتي لهذه/ الآية مزيد بيان .

ومنع مكي أن يتعلق { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بزينة قال : " لأنها قد نُعِتت والمصدر واسم الفاعل متى نُعِتا لا يعملان لبُعْدهما عن شبه الفعل " قال : " ولأنه يُفَرَّق بين الصلة والموصول ؛ لأنَّ نعت الموصول ليس من صلته " .

قلت : لأن " زينة " مصدر فهي في قوة حرفٍ موصولٍ وصلته ، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبع الموصولُ إلا بعد تمام صلته . فقد تحصَّل في تعلُّق " للذين آمنوا " ثلاثةُ أوجه : إمَّا أَنْ يتعلَّق بخالصة ، أو بمحذوفٍ على أنها خبرٌ ، أو بمحذوفٍ على أنها للبيان . وفي تعلُّق { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سبعةُ أوجهٍ أحدها : أن يتعلَّق بآمنوا . الثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنها حال . الثالث : أن يتعلَّق بما تعلَّق به للذين آمنوا . الرابع : أن يتعلق بحرَّم . الخامس : أن يتعلق بأخرج . السادس : أن يتعلق بقوله : " الطيبات " . السابع أن يتعلَّق بالرزق . ويوم القيامة له متعلق واحد وهو خالصة ، والمعنى : أنها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصةٌ للمؤمنين فقط أخرى .

فإن قيل : إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة ؟ قلت : قد أجابوا عن ذلك من أوجه : أحدُها : أن في الكلام حذفاً تقديره : قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة ، قاله أبو القاسم الكرماني ، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما . والثاني : أن " للذين آمنوا " ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ ، يدلُّ عليه المعنى ، والتقدير : قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا ، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة ، قاله الزمخشري ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . الثالث : ما ذكره الزمخشري ، وسبقه إليه التبريزي قال : " فإن قلت : هَلاَّ قِيل [ هي ] للذين آمنوا ولغيرهم ؟ قلت : التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً }

[ البقرة : 126 ] . وقال التبريزي : " ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة ، والكفار تَبَعٌ لهم ، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وهذا الثالثُ في الحقيقة ليس جواباً ثالثاً إنما هو مبين لحُسْن حذف المعطوف وعدمِ ذِكْره مع المعطوف عليه .