التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (32)

استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدىء الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله . وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب { قل } دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة .

والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام : 148 ] وقوله { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } [ الأنعام : 143 ] وقرينة التّهكّم : إضافة الزّينة إلى اسم الله ، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده ، ووصفُ الرّزق بالطّيبات ، وذلك يقتضي عدم التّحريم ، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها .

ولوضوح انتفاء تحريمها ، وأنّه لا يقوله عاقل ، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم ، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه ، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } على طريقة قوله : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين .

وضمير : { هي } عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها ، أي : الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم .

واللاّم في : { للذين آمنوا } لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة ، فالمعنى : ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا ، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها ، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى ، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن ، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا .

وقوله : { خالصة يوم القيامة } قرأه نافع ، وحده : برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله : { هي } أي : هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة ، وقرأه باقي العشرة : بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد ، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة .

والأظهر أنّ الضّمير المستتر في { خالصة } عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها ، أي هي خالصة لهم في الآخرة ، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا ، فمعنى خلاصها صفاؤها ، وكونه في يوم القيامة : هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها ، وهي تبعات تحريمها ، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها ، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم ، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا ، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها ، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير ، والأمر فيه على قراءة رفع : { خالصة } أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً ، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة .

ويحتمل أن يكون الضّمير في { خالصة } عائداً إلى الزّينة والطّيبات ، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها ، فيكون المعنى : ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة .

ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة ، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة ، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها ، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه .

ومعنى : { كذلك نفصّل الآيات } كهذا التّفصيل المتبَدِيء من قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] الآيات أو من قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] . وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام .

والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى ، وانفراده بالإلهيّة ، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة ، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال ، إذ قال : خُذوا زينتكم ، وقال : { وكلوا واشربوا } [ الأعراف : 31 ] ، ثمّ قال : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] ، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا ، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة ، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه ، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم ، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة .

واللاّم في قوله : { لقوم يعلمون } لام العلّة ، وهو متعلّق بفعل { نفصل } ، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون ، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون ، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات ، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون ، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } في سورة الأنعام ( 99 ) ، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون .

والمراد بقوم يعلمون } الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها ، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم ، رغم ما فصّل لهم من الآيات .