ومضى موسى - عليه السلام - إلى النار التي آنسها ، ينشد خبرا ، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى :
( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها . وسبحان الله رب العالمين . يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . .
إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله ، وتتصل به العوالم والأفلاك ؛ ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر والأرواح . النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض ، وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها الكبير ، ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من الله .
( فلما جاءها نودي ) . . بهذا البناء للمجهول - وهو معلوم - ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم .
( نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) . .
فمن ذا كان في النار ? ومن ذا كان حولها ? إنها على الأرجح لم تكن نارا من هذه النار التي نوقدها . إنما كانت نارا مصدرها الملأ الأعلى . نارا أوقدتها الأرواح الطاهرة من ملائكة الله للهداية الكبرى . وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها . ومن ثم كان النداء : ( أن بورك من في النار )إيذانا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة ومن حولها . . وفيمن حولها موسى . . وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا . ومضت هذه البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها ، وإذنه لها بالبركة الكبرى .
وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء : ( وسبحان الله رب العالمين . يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . .
نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين ، وكشف لعبده أن الذي يناديه هو الله العزيز الحكيم . وارتفعت البشرية كلها في شخض موسى - عليه السلام - إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم . ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها ، ولكنه كان الخبر الهائل العظيم ؛ ووجد القبس الدافىء ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم .
وكان النداء للاصطفاء ؛ ووراء الاصطفاء التكليف بحمل الرسالة إلى أكبر الطغاة في الأرض فى ذلك الحين . ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه :
{ فلما جاءها نودي أن بورك } أي { بورك } فإن النداء فيه معنى القول ، أو ب { أن بورك } على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة . { من في النار ومن حولها } { من } في مكان { النار } وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : { نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة } ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من في تلك الأرض ، وفي ذلك الواد وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى . وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون ، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشام . { وسبحان الله رب العالمين } من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر ، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته .
أُنث ضمير { جاءها } جرياً على ما تقدم من تسمية النور ناراً بحسب ما لاح لموسى . وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه ، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب ، فقوله : { أن بورك من في النار ومن حولها } هو بعض ما اقتضاه قوله في طه ( 12 ) : { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى } لأن معنى بورك قُدّس وزُكِّيَ .
وفعل ( بارك ) يستعمل متعدياً ، يقال : باركك الله ، أي جعل لك بركة وتقدم بيان معنى البركة في قوله تعالى : { للَّذِي بِبَكَّة مباركاً } في آل عمران ( 96 ) ، وقوله { وبركاتٍ عليك وعلى أمم ممّن معك } في سورة هود ( 48 ) . و ( أن ) تفسيرية لفعل { نُودِيَ } لأن فيه معنى القول دون حروفه ، أي نودي بهذا الكلام .
و { مَن في النار } مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطاً به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف ، فعبر عنه ب { مَن في النار } وهو نفسه .
والعدول عن ذِكره بضمير الخِطاب كما هو مقتضى الظاهر ، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر ، لأن في معنى صلة الموصول إيناساً له وتلطفاً كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ « قُم أبَا تراب » وكثيرٌ التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطَّف به من أحواله . وهذا الكلام خبر هو بشارة لموسى عليه السلام ببركة النبوءة .
ومَن حَوْل النار : هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسُه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن الله تعالى . فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر { مَن } الموصولة في الموضعين ، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة . وقيل إن قوله { أن بورك من في النار } إنشاء تحية من الله تعالى إلى موسى عليه السلام كما كانت تحية الملائكة لإبراهيم { رحمتُ الله وبركاته عليكم أهل البيت } [ هود : 73 ] أي أهل هذا البيت الذي نحن فيه .
و { سبحان الله رب العالمين } عطف على ما نودي به موسى على صريح معناه إخباراً بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم موسى أمرين : أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى ، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان . ويجوز أن يكون { سبحان الله } مستعملاً للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكُّر تنزيهه وتقديسه .
وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى وإنما يُعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية .
فالمعنى : ونَزِّه الله تنزيهاً عن كل ما لا يليق به ، ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالاً في ذلك المكان .
وإرداف اسم الجلالة بوصف { رب العالمين } فيه معنى التعليل للتنزيه عن شؤون المحدثات لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شؤونهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.