ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية ، فيقول في تبجح :
( أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
( لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) . . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية ، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وقال أيضًا : { أَرَأَيْتَكَ } ، يقول للرب جراءة وكفرًا ، والرب يحلم{[17643]} وينظر { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : لأستولين على ذريته إلا قليلا .
وقال مجاهد : لأحتوين . وقال ابن زيد : لأضلنهم .
وكلها متقاربة ، والمعنى : أنه يقول : أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم .
والكاف في قوله { أرأيتك } هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه ، لا موضع لها من الإعراب ، فهي زائدة ، ومعنى أرأيت : أتأملت ونحوه ، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد ، وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ، ومثل بقوله أرأيتك زيداً أبو من هو ؟ وقاله الزجاج : في { آياتنا } [ طه : 56 ] ولم يمثل ، وقول سيبويه : صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية ، فهي كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله{[7619]} ، وقرأ ابن كثير «أخرتني » بياء في الوصل والوقف ، وهذا هو الأصل ، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف ، كمثل قول الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتياد البلاد . . . من حذر الموت أن يأتين{[7620]}
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «أخرتن » بحذف الياء في الوصل والوقوف ، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه ، لكونها ياء متطرقة قبلها كسرة ، ومنه قوله تعالى : { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه }{[7621]} وقوله { لأحتنكن } معناه : لأميلن ولأجرن ، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد ، وألسنة تحتنك المال ، أي تجتره ، ومنه قول الشاعر :
تشكو إليك سنة قد أجحفت . . . جهداً إلى جهة بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت{[7622]} . . . ومن هذا الشعر ، قال الطبري { لأحتنكن } معناه : لاستأصلن ، وعبر ابن عباس في ذلك ب «لأستولين » ، وقال ابن زيد : لأضلن ، وهذا بدل اللفظ لا تفسير ، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم ، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ، كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل ، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله .
جملة { قال أرأيتك } بدل اشتمال من جملة { أأسجد لمن خلقت طيناً } باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله . فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله : { أرأيتك } المفيد الإنكار . وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته ، ولذلك فصلت جملة { قال أرأيتك } عن جملة { قال أأسجد } كما وقع في قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } [ طه : 120 ] .
و{ أرأيتك } تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به . ومعناه : أخبرني عما رأيت ، وهو مركب من همزة استفهام ، و ( رأى ) التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع ، ثم يزاد على ضمير الخطاب كافُ خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحداً أو متعدداً . يقال : أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } في سورة [ الأنعام : 40 ] . وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع ، وهو يشبه التوكيد اللفظي . وقال الفراء : الكاف ضمير نصب ، والتركيب : أرأيتَ نفسك . وهذا أقرب للاستعمال ، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضميرُ فاعلها نحو قول طرفة :
فما لي أراني وابنَ عمي مالكاً *** مَتى أدْنُ منه ينأ عني ويبَعَد
واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، كقوله تعالى : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] . والمعنى أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته عليّ بلا وجه .
وجملة { لئن أخرتني إلى يوم القيامة } الخ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، وهي جملة قَسَمية ، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط ، والخبرُ مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله : { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } [ ص : 79 ] .
وهذا الكلام صدر من إبليس إعراباً عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه .
وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يُغوي كثيراً من البشر ويَسلَم منه قليل منهم .
وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواءَ آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أعوَى آدم وأخرج من الجنة فقد شفَى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم ، قال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو } [ فاطر : 6 ] .
والاحتناك : وضع الراكب اللجامَ في حَنَك الفرس ليركَبه ويَسيّره ، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفَرس على حب ما يريد راكبه .