83- فإن أعادك اللَّه من الغزو إلى طائفة من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الغزو ، فاستأذنوك في أن يخرجوا معك للجهاد في غزوة أخرى ، فلا تأذن لهم ، وقل لهم : لن تخرجوا معي في أية غزوة ، ولن تشتركوا معي في قتال أي عدو ، لأن قعودكم عن الخروج في أول مرة لم يسبق بعذر يبرره ، ولم يلحق بتوبة تغفره ، فاقعدوا كما ارتضيتم أن تقعدوا مع المتخلفين من العجزة والكهول والنساء والأطفال .
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } وهم الذين تخلفوا من غير عذر ، ولم يحزنوا على تخلفهم { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } لغير هذه الغزوة ، إذا رأوا السهولة . { فَقُلْ } لهم عقوبة { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } فسيغني اللّه عنكم .
{ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } وهذا كما قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } فإن المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة ، لا يوفق له بعد ذلك ، ويحال بينه وبينه .
وفيه أيضا تعزير لهم ، فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد لمعصيتهم ، كان ذلك توبيخا لهم ، وعارا عليهم ونكالا أن يفعل أحد كفعلهم .
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد - في ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة . هؤلاء لا يصلحون لكفاح ، ولا يُرجون لجهاد ، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين :
( فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين ) . .
إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق . والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب . فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة . والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة ، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء ، جناية على الصف كله ، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير . .
( فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ) .
( إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ) . .
ففقدتم حقكم في شرف الخروج ، وشرف الانتظام في الكتيبة ، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل . فلا سماحة في هذا ولا مجاملة :
المتجانسين معكم في التخلف والقعود .
هذا هو الطريق الذي رسمه اللّه تعالى لنبيه الكريم ، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً . فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق . .
يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام{[13747]} { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أي : ردك الله من غَزْوَتك هذه { إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } أي : معك إلى غزوة أخرى ، { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } أي : تعزيرا لهم وعقوبة . ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، كما قال في عُمرة الحديبية : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [ الفتح : 15 ]
وقوله تعالى : { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة . وقال قتادة : { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } أي : مع النساء .
قال ابن جرير : وهذا لا يستقيم ؛ لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ، ولو أريد النساء لقال : فاقعدوا مع الخوالف ، أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما{[13748]} {[13749]}
{ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين ، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلا . { فاستأذنوك للخروج } إلى غزوة أخرى بعد تبوك { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدواً } إخبار في معنى النهي للمبالغة . { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و{ أول مرة } هي الخرجة إلى غزوة تبوك . { فاقعدوا مع الخالفين } أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان . وقرئ مع " الخلفين " على قصر { الخالفين } .
وقوله : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } الآية ، { رجع } يستوي مجاوزه وغير مجاوزه ، وقوله تعالى : { إن } مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه{[5816]} وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، بأن يقول لهم { لن تخرجوا معي } ، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب ، وقوله : { إلى طائفة } يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون ، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً ، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم » ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله ، وقوله : { وماتوا وهم فاسقون } ونص في موافاتهم ، ومما يؤيد هذا ما روي أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها .
وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال لا ، والله ، لا أمنه منها أحداً بعدك ، وقرأ جمهور الناس «معي » بسكون الياء في الموضعين ، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معيَ » بحركة الياء في الموضعين ، وقوله { أول } هو الإضافة إلى وقت الاستئذان .
و «الخالفون » جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء ، وهو جمع خالف ، وقال قتادة «الخالفون » النساء ، وهذا مردود ، وقال ابن عباس : هم الرجال ، وقال الطبري : يحتمل قوله { مع الخالفين } أن يريد مع الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة ، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين » وهو مقصور من الخالفين ، كما قال : عرداً وبرداً عارداً وبارداً{[5817]} ، وكما قال الآخر : [ الرجز ]
مثل النقا لبده برد الظلال*** يريد الظلال{[5818]} .
الفاء للتفريع على ما آذن به قوله : { قل نار جهنم أشد حراً } [ التوبة : 81 ] إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم ، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم .
وفعل رجع يكون قاصراً ومتعدّياً مرادفاً لأرجع . وهو هنا متعدّ ، أي أرجعك الله .
وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلّفين على وجه الإيجاز لأنّ المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدّث عنها بقرينة قوله : { فاستئذنوك للخروج } ولمّا كان المقصود بيان معاملته مع طائفة ، اختُصر الكلام ، فقيل : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } ، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسّرين وجعلوه الإرجاع من سفَر تبوك مع أنّ السورة كلّها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي ، أي تكرّر الخوض معهم مرّة أخرى .
والطائفة : الجماعة وتقدّمت في قوله تعالى : { يغشى طائفة منكم } في سورة آل عمران ( 154 ) . أو قوله : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .
والمراد بالطّائفة هنا جماعة من المخلّفين دل عليها قوله : فاستئذنوك للخروج } أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو ، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعاً في الغنيمة أو نحو ذلك . ويجوز أن يكون طائفة من المخلّفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو . وعلى الوجهين يحتملُ أنّ منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرّد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا وآمنوا .
وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين .
والجمع بين النفي ب { لن } وبين كلمة { أبداً } تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين .
وجملة : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ ، أي إنّكم تحبّون القعود وترضون به فقد زدتُكم منه .
وفعل : { رضيتم } يدلّ على أنّ ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس حتّى أطلق على ارتكابه فعل رَضِي المشعرُ بالمحاولة والمراوضة . جُعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتّى يرضيها كقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] وقد تقدّم ذلك .
وانتصب { أول مرة } هنا على الظرفية لأنّ المرّة هنا لمّا كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان . وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم ، بخلاف انتصابها في قوله : { وهم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] وفي قوله : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة : 80 ] كما تقدّم . و { أول مرة } هي غزوة تبوك التي تخلّفوا عنها .
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأنّ في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية .
والفاء في { فاقعدوا } تفريع على { إنكم رضيتم بالقعود } ، أي لمَّا اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنّكم تحبّون التخلّف .
و { الخالفين } جمع خالف وهو الذي يخلُف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن رجعك الله} من غزاة تبوك إلى المدينة، {إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا} في غزاة، {ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة}، يعني من تخلف من المنافقين، وهى طائفة، وليس كل من تخلف عن غزاة تبوك منافق، {فاقعدوا} عن الغزو {مع الخالفين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن ردّك الله يا محمد إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه، فاستأذنوك للخروج معك في أخرى غيرها، فقل لهم:"لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعيَ عَدُوّا إنّكُمْ رَضِيُتمْ بالقُعُودِ أوّلَ مَرّةٍ" وذلك عند خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك "فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ "يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنكم منهم، فاقتدوا بهديهم واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله، فإن الله قد سخط عليكم.
...عن قتادة، قوله:"...فاقْعُدُوا مَعَ الخالفينَ": أي مع النساء...
عن ابن عباس: "فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ" والخالفون: الرجال.
والصواب من التأويل في قوله "الخالِفِينَ" ما قال ابن عباس. فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء، فقول لا معنى له لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهنّ رجال بالياء والنون، ولا بالواو والنون. ولو كان معنيا بذلك النساء، لقيل: «فاقعدوا مع الخوالف»، أو «مع الخالفات»، ولكن معناه ما قلنا من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرجال وأهل زمانتهم والضعفاء منهم والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر، فإن العرب تغلّب الذكور على الإناث، ولذلك قيل: "فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ" والمعنى ما ذكرنا. ولو وجّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم: خلف الرجال عن أهله يخلف خلوفا، إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوء كان مذهبا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى من قولهم خَلَف اللبن يخَلُف خلوفا إذا خَبُث من طول وضعه في السقاء حتى يفسد، ومن قولهم: خَلَف فَمُ الصائم: إذا تغيرت ريحه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ) دل قوله (رجعك الله إلى طائفة منهم) أن ليس كل متخلف عنه في ذلك، فهو منافق، ولا كل المنافقين امتنعوا، وتخلفوا عنه. وقوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً) لأنه أخبر أن خروجهم معهم لا يزيدهم (إلا خبالا) [التوبة: 47] وفسادا؛ فيقول: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي عوقبوا (بالقعود أول مرة) لنفاقهم. وقوله تعالى: (فقل لن تخرجوا معي أبدا) أي لن آذن لكم أن (تخرجوا معي أبدا) و لن آذن لكم أن (تقاتلوا معي عدوا). ويحتمل (لن تخرجوا) أي وإن أذنت لكم بالخروج فلن تخرجوا أبدا (فاقعدوا مع الخالفين) قيل: مع المتخلفين، وهم المنافقون على ما ذكر. ويحتمل: أن اقعدوا مع أصحاب الأعذار. وقال بعضهم اقعدوا مع النساء والزمنى، وهو واحد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقول: بعدما ظهرت خيانَتُهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تَنْخَدِعْ بتملقهم، ولا تَثِقْ بقولهم، ولا تُمَكِّنْهم مِنْ صُحبتك فيما يُظْهِرونه مِنْ وفاقك. فإذا وَهَنَ سِلْكُ العهدِ فلا يَحْتَملُ بَعْدَهُ الشَّدَّ، وإذا اتسع الخَرْقُ لا ينفع بَعدَهُ الرَّقْعُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما قال {إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك. {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلاّ النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين {مَعَ الخالفين}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {إن} مبينة أن النبي،صلى الله عليه وسلم، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه، وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه، وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يقول لهم {لن تخرجوا معي}، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب، وقوله: {إلى طائفة} يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم»، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله، وقوله: {وماتوا وهم فاسقون} ونص في موافاتهم، ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها...
اعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم، بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته، لأن خروجهم معه يوجب أنواعا من الفساد. فقال: {فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم} أي من المنافقين {فقل لن تخرجوا معي أبدا} قوله: {فإن رجعك الله} يريد إن ردك الله إلى المدينة، ومعنى الرجع: مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال رجعته رجعا كقولك رددته ردا.
وقوله: {إلى طائفة منهم} إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين.
وقوله: {فاستأذنوك للخروج} أي للغزو معك {فقل لن تخرجوا معي أبدا} إلى غزوة، وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم، وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام، ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان، كان ذلك تصريحا بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع، لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذرا من مكرهم وكيدهم وخداعهم، فصار هذا المعنى من هذا الوجه جاريا مجرى اللعن والطرد، ونظيره قوله تعالى: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} إلى قوله: {قل لن تتبعونا} ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} والمراد منه القعود عن غزوة تبوك، يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة، فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم، فعند ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفت إليكم...
ثم قال تعالى: {فاقعدوا مع الخالفين} ذكروا في تفسير الخالف أقوالا:
الأول: قال الأخفش وأبو عبيدة: الخالفون جمع. واحدهم خالف، وهو من يخلف الرجل في قومه، ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون.
والثاني: أن الخالفين مفسر بالمخالفين. قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفا. وقال الأخفش: فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم. وقال الليث هذا الرجل خالفة، أي مخالف كثير الخلاف، وقوم خالفون، فإذا جمعت قلت الخالفون.
والقول الثالث: الخالف هو الفاسد. قال الأصمعي: يقال: خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد، وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد. وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة: فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشددا فيه مبالغا في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه، وأن يحترز عن مصاحبته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى ما يجب من الجزاء الذي يعاملون به في الدنيا قبل الآخرة مما يقتضي انقضاء عهد فرحهم وغبطتهم في دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام الصورية والمعنوية فقال: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم}... والمعنى: فإن ردك الله أيها الرسول من سفرك هذا إلى طائفة منهم أي المخلفين من المنافقين، وما كل من تخلف كان منافقاً.
{فاستأذنوك للخروج} معك في غزاة أو غير غزاة مما تخرج لأجله {فقل لن تخرجوا معي أبدا} أي لن يكون لكم شرف صحبة الإيمان بالخروج معي إلى الجهاد في سبيل الله، ولا إلى غيره كالنسك أبدا ما بقيت.
{ولن تقاتلوا معي عدوا} من الأعداء بصفة ما، لا بالخروج والسفر إليهم، ولا بغير ذلك كأن يهاجموا المؤمنين في عاصمتهم، كما فعلوا يوم الأحزاب مثلا، فكل من الخروج المطلق الذي حذف متعلقه، والقتال الذي ذكر متعلقة نكرة منفية عام، فيصدقان بكل خروج وكل قتال لعدو في أي مكان، وقد يكون كل منهما بدون الآخر، فبينهما عموم وخصوص مطلق، وقد غفل عن هذا من غفل من المفسرين فزعموا أن الثاني تأكيد للأول، ثم بين سبب هذا الحرمان من شرف الجهاد فقال:
{إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، واستنفرتم فلم تنفروا عصياناً لله ورسوله.
{فاقعدوا مع الخالفين} ما حييتم أبدا، أي مع الذين تخلفوا عن النفر، أو مع الأشرار الفاسدين، الذين خرجوا عن سبيل المهتدين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد -في ساعة العسرة- وتخلفوا عن الركب في أول مرة. هؤلاء لا يصلحون لكفاح، ولا يُرجون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين: (فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج، فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين).. إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة. والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء، جناية على الصف كله، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير.. (فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً). لماذا؟. (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة).. ففقدتم حقكم في شرف الخروج، وشرف الانتظام في الكتيبة، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل. فلا سماحة في هذا ولا مجاملة: (فاقعدوا مع الخالفين).. المتجانسين معكم في التخلف والقعود. هذا هو الطريق الذي رسمه اللّه تعالى لنبيه الكريم، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً. فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} في جولةٍ أخرى في معركة الحق والباطل {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} ليثبتوا إخلاصهم في الظاهر، بعد انكشاف أمر جماعتهم في الجولة الأولى، ليحصلوا على الثقة الجديدة من أجل أن يتآمروا من جديد، من مواقع هذه الثقة التي يستطيعون من خلالها أن يكيدوا للإسلام والمسلمين بكل حرّيةٍ وثقةٍ وامتداد، {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} ولن أمنحكم هذه الفرصة التي تدخلكم في صفوف المجاهدين الذين يحصلون على امتياز القيمة العليا الكبيرة في حركة الإنسان في الحياة، لأنكم لا تعيشون روحيّة الجهاد في العمق الروحي من شخصيتكم، فكيف تحملون قيمته؟ {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا} لأن الذين يقاتلون العدوّ هم الذين يثبتون في المعركة من خلال إيمانهم برسالة المعركة، في طبيعة الساحة وفي تحديد مواقع الأعداء في مجالات الهجوم والدفاع. وهذا ما لم تعيشوه في فكركم، ولذلك فلا أمان لكم أن تواجهوا أعداء الله بقوّة وأنتم تنظرون إليهم نظرة الصديق إلى الصديق، فلا مجال لكم في حركة المعركة {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فكيف يمكن لنا أن نعيد الثقة المفقودة بكم من دون أساسٍ ثابت، {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} المتخلّفين عن عذر أو عن غير عذر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ الآية الكريمة تقول: (فإنّ رجعك الله إِلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) أي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن يزرع اليأس في نفوس هؤلاء، ويُعلمهم أن هذا التلون سوف لن ينطلي على أحد، ولن يُخدع بهم أحد، والأُولى لهم أن يحزموا أمتعتهم ويرحلوا من هذا المكان إِلى مكان آخر، فإنّ أحداً سوف لن يقع في مكائدهم وحبائلهم في هذه المدينة.
وتوجد هنا مسألة ينبغي التنبيه إِليها، وهي أنّ جملة (طائفة منهم) توحي أن هؤلاء المنافقين لم يكونوا بأجمعهم يمتلكون الشجاعة حتى يحضروا ويطلبوا من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السماح لهم في الخروج إِلى الجهاد، ربّما لأن بعضهم كانوا مفضوحين إِلى حد يخجلون معه من الحضور في مجلس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب الخروج معه.
ثمّ تبيّن الآية أن سبب عدم قبول اقتراح هؤلاء وطلبهم ب (إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع القاعدين).
لا شك أنّ هذه المجموعة من المنافقين لو كانوا قد ندموا على تخلفهم وتابوا منه، وأرادوا الجهاد في ميدان آخر من أجل غسل ذنبهم السابق، لقبل الله تعالى منهم ذلك، ولم يردهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى هذا يتبيّن لنا أن طلبهم هذا بنفسه نوع من المراوغة والشيطنة وعمل نفاقي، أو قل: إنّه كان تكتيكاً من أجل إِخفاء الوجه القبيح لهم، والاستمرار في أعمالهم السابقة.
إنّ كلمة (خالف) تأتي بمعنى المتخلف، وهي إشارة إِلى المتخلفين عن الحضور في ساحات القتال، سواء كان تخلفهم لعذر أو بدون عذر.
وذهب البعض قال: إنّ خالِف بمعنى مخالِف، أي اذهبوا أيّها المخالفون وضموا أصواتكم إِلى المنافقين لتكونوا جميعاً صوتاً واحداً.
وفسّرها البعض بأنّ معناها (فاسد) لأنّ الخُلُوف بمعنى الفساد، وخالِف: جاء في اللغة بمعنى فاسِد.
ويوجد احتمال آخر، وهو أنّه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة، لأنّ المنافقين وأنصارهم توجد فيهم كل هذه الصفات الرذيلة.
وكذا ينبغي أن نذكر بأنّ المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة المنافقين في الأعصار الماضية، ويطبقوها في مواجهة منافقي محيطهم ومجتمعهم، كما يجب اتباع نفس أسلوب النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، ويجب الحذر من السقوط في شباكهم وأن لا ينخدع المسلم بهم، ولا يرق قلبه لدموع التماسيح التي يذرفونها، «فإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين».