{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } ذكر فيها هاتين المنفعتين ، منفعة لجنس الآدمي ، وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه ، فيحصل فيها معونة . ومنفعة للبهائم ، وهو أنه كان يرعى الغنم ، فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه ، هش بها ، أي : ضرب الشجر ، ليتساقط ورقه ، فيرعاه الغنم .
هذا الخلق الحسن من موسى عليه السلام ، الذي من آثاره ، حسن رعاية الحيوان البهيم ، والإحسان إليه دل على عناية من الله له واصطفاء ، وتخصيص تقتضيه رحمة الله وحكمته .
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ } أي : مقاصد { أُخْرَى } غير هذين الأمرين . ومن أدب موسى عليه السلام ، أن الله لما سأله عما في يمينه ، وكان السؤال محتملا عن السؤال عن عينها ، أو منفعتها أجابه بعينها ، ومنفعتها
إنها عصاه . ولكن أين هو من عصاه ? إنما يتذكر فيجيب :
( قال : هي عصاي ، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) . .
والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده . إنما كان عما في يمينه . ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل ، فهي واضحة ، إنما عن وظيفتها معه . فأجاب . .
ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا : أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم - وقد كان يرعى الغنم لشعيب . وقيل : إنه ساق معه في عودته قطيعا منها كان من نصيبه . وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها لأن ما ذكره نموذج منها .
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي : أعتمد عليها في حال المشي { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي : أهز بها الشجرة ليسقط ورقها ، لترعاه غنمي .
قال عبد الرحمن بن القاسم : عن الإمام مالك : والهش : أن يضع الرجل المحْجَن في الغصن ، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثَمَره ، ولا يكسر العود ، فهذا الهش ، ولا يخبط . وكذا قال ميمون بن مهران أيضًا .
وقوله : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي : مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك . وقد تكلف{[19238]} بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت ، فقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة .
والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانًا ، فما كان يفر منها هاربًا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية{[19239]} وكذا قول بعضهم : إنها كانت لآدم ، عليه السلام . وقول الآخر : إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة . وروي عن ابن عباس أنه قال : كان اسمها ماشا . والله أعلم بالصواب .
{ قال هي عصاي } وقرئ " عصي " على لغة هذيل . { أتوكأ عليها } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع . { وأهش بها على غنمي } وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي ، وقرئ { أهش } وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته ، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحي عليها زاجرا لها . { ولي فيها مآرب أخرى } حاجات أخر مثل أنه كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته ، وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به ، وإذا قصر الرشاء وصله بها ، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها ، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها ، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع ، وتصيران دلوا عند الاستقاء ، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو ، وينبع الماء بركزها ، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها ، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها ، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلا ومجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه .
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «عصاي » بكسر الياء مثل غلامي{[8095]} ، وقرأت فرقة «عصى » وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم . . . {[8096]} وقرأ الجمهور «عصايَ » بفتح الياء ، وقرأ ابن أبي إسحاق «عصايْ » بياء ساكنة ، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها{[8097]} ، وأجمل سائر ذلك ، وقرأ الجمهور «وأهُشُّ » بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم ، وقرأ إبراهيم النخعي «وأهِش » بكسر والمعنى كالذي تقدم ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «وأهُسُّ » بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف ، وقرأت فرقة «علي غنمي » بالجر ، وقرأت «غنمي » فأوقع الفعل على الغنم ، وقرأت «غنْمي » بسكون النون ولا أعرف لها وجهاً ، وقوله { أخرى } فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى : { الأسماء الحسنى }{[8098]} [ طه : 8 ] وكقوله { يا جبال أوبي معه }{[8099]} [ سبأ : 10 ] وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة{[8100]} ، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء التي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية ، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى .