282- يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا بَدْينٍ مؤجل إلى أجل ، ينبغي أن يكون الأجل معلوماً ، فاكتبوه حفظاً للحقوق تفادياً للنزاع ، وعلى الكاتب أن يكون عادلا في كتابته ، ولا يمتنع عن الكتابة ، شكراً لله الذي علمه ما لم يكن يعلم ، فليكتب ذلك الدين حسب اعتراف المدين وعلى المدين أن يخشى ربه فلا ينقص من الدين شيئاً ، فإن كان المدين لا يحسن التصرف ولا يقدر الأمور تقديراً حسناً ، أو كان ضعيفاً لصغر أو مرض أو شيخوخة ، أو كان لا يستطيع الإملاء لخرس أو عقدة لسان أو جهل بلغة الوثيقة ، فَلْيُنِبْ عنه وليه الذي عينه الشرع أو الحاكم ، أو اختاره هو في إملاء الدين على الكاتب بالعدل التام . وأشهدوا على ذلك الدين شاهدين من رجالكم ، فإن لم يوجدا فليشهد رجل وامرأتان تشهدان معاً لتؤديا الشهادة معاً عند الإنكار ، حتى إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى ، ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة إذا ما طُلب الشهود ، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان أو كبيراً ما دام مؤجلا لأن ذلك أعدل في شريعة الله وأقوى في الدلالة على صحة الشهادة ، وأقرب إلى درء الشكوك بينكم ، إلا إذا كان التعامل على سبيل التجارة الحاضرة ، تتعاملون بها بينكم ، فلا مانع من ترك الكتابة إذ لا ضرورة إليها . ويطلب منكم أن تشهدوا على المبايعة حسماً للنزاع ، وتفادوا أن يلحق أي ضرر بكاتب أو شاهد ، فذلك خروج على طاعة الله ، وخافوا الله واستحضروا هيبته في أوامره ونواهيه ، فإن ذلك يلزم قلوبكم الإنصاف والعدالة ، والله يبين ما لكم وما عليكم ، وهو بكل شيء - من أعمالكم وغيرها - عليم{[29]} .
{ 282 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
هذه آية الدين ، وهي أطول آيات القرآن ، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار ، أحدها : أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره ، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها ، وذلك يدل على الجواز ، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول ، الرابع : الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها ، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم ، الخامس : أمر الكاتب أن يكتب ، السادس : أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته ، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته ، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما ، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك ، الثامن : أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما ، وما يحصل به التوثق ، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك ، وهذا مأخوذ من قوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } التاسع : أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها ، ولو كان هو والشهود قد ماتوا ، العاشر : قوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي : لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين ، فكما أحسن الله إليه بتعليمه ، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته ، ولا يمتنع من الكتابة لهم ، الحادي عشر : أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق ، الثاني عشر : أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين ، الثالث عشر : أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئا ، الرابع عشر : أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول ، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب ، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه ، وهو ما أقر به على نفسه ، ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا ، الخامس عشر : أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة{[151]} على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل ، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق ، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه ، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته ، السادس عشر : أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره ، أو طيبه وحسنه ، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه ، السابع عشر : أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه ، أو نحو ذلك ، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار ، الثامن عشر : أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل ، وعدم البخس لقوله { بالعدل } التاسع عشر : أنه يشترط عدالة الولي ، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق ، العشرون : ثبوت الولاية في الأموال ، الحادي والعشرون : أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف ، لا على وليهم ، الثاني والعشرون : أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح ، لأن الله جعل الإملاء لوليهم ، ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة ، خوفا من تلاف أموالهم ، الثالث والعشرون : صحة تصرف الولي في مال من ذكر ، الرابع والعشرون : فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه ، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل ، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع ، الخامس والعشرون : أن تعلم الكتابة مشروع ، بل هو فرض كفاية ، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها ، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم ، السادس والعشرون : أنه مأمور بالإشهاد على العقود ، وذلك على وجه الندب ، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق ، فهو عائد لمصلحة المكلفين ، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا ، السابع والعشرون : أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل وامرأتان ، ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي ، الثامن والعشرون : أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل ، التاسع والعشرون : أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل ، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل ، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم . الثلاثون : أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله : { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم } والعبد البالغ من رجالنا ، الحادي والثلاثون : أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة ، لأنهم ليسوا منا ، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل ، الثاني والثلاثون : فيه فضيلة الرجل على المرأة ، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها ، الثالث والثلاثون : أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } الرابع والثلاثون : يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والخامس والثلاثون : أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور ، لا يجوز له أن يأبى لقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } السادس والثلاثون : أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم ، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء ، السابع والثلاثون : النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود ، الثامن والثلاثون : بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود ، وأنه { أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد ، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر ، التاسع والثلاثون : يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين ، الأربعون : قوله : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر ، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة ، الحادي والأربعون : أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة ، فإنه يشرع الإشهاد لقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } الثاني والأربعون : النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه ، الثالث والأربعون : النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه ، أو غير ذلك هذا على جعل قوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } مبنيا للمجهول ، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك ، وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } السابع والأربعون أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان ، فتكون فيه مادة فسق وغيرها ، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله : { فإنه فسوق بكم } ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق . الثامن والأربعون : - وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد لقوله : { ممن ترضون من الشهداء } التاسع والأربعون : أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان ، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته ، الخمسون : يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى ، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر ، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده .
( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . .
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره . فالكتابة أمر مفروض بالنص ، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل . لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص .
( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) . .
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب . وليس أحد المتعاقدين . وحكمة استدعاء ثالث - ليس أحد الطرفين في التعاقد - هي الاحتياط والحيدة المطلقة . وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل ، فلا يميل مع أحد الطرفين ، ولا ينقص أو يزيد في النصوص . .
( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) . .
فالتكليف هنا من الله - بالقياس إلى الكاتب - كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه . فتلك فريضة من الله بنص التشريع ، حسابه فيها على الله . وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب . . ( فليكتب )كما علمه الله .
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل . ومن تعيين من يتولى الكتابة . ومن تكليفه بأن يكتب . ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه ، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل . .
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب . .
( وليملل الذي عليه الحق . وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا . فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ) . .
إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ، ومقدار الدين ، وشرطه وأجله . . ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن ، فزاد في الدين ، أو قرب الأجل ، أو ذكر شروطا معينة في مصلحته . والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في اتمام الصفقة لحاجته إليها ، فيقع عليه الغبن . فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر . ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت ، وهو الذي يملي . . وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين - وهو يملي - أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئا من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى . . فإن كان المدين سفيها لا يحسن تدبير أموره . أو ضعيفا - أي صغيرا أو ضعيف العقل - أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية . . فليملل ولي أمره القيم عليه . ( بالعدل ) . . والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة . فربما تهاون الولي - ولو قليلا - لأن الدين لا يخصه شخصيا . كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد .
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها ، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد ، نقطة الشهادة :
( واستشهدوا شهيدين من رجالكم . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان - ممن ترضون من الشهداء - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) . .
إنه لا بد من شاهدين على العقد - ( ممن ترضون من الشهداء )- والرضى يشمل معنيين : الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة . والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد . . ولكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا . فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة ، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي ، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش ، فتجوربذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل ، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل ، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم ! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان . . ولكن لماذا امرأتان ؟ إن النص لا يدعنا نحدس ! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) . . والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة . فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد ، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكرها الأخرى بالتعاون معا على تذكر ملابسات الموضوع كله . وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما . تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء . . وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة . . وهذه الطبيعة لا تتجزأ ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال ، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء . ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال - فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة .
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة ، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة :
( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) .
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعا . فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق . والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعيه تلبية وجدانية ، بدون تضرر أو تلكؤ . وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما ، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما .
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة ، فينتقل الشارع إلى غرض آخر . غرض عام للتشريع . يؤكد ضرورة الكتابة - كبر الدين أم صغر - ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق ، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة ! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا :
( ولا تسأموا أن تكتبوه - صغيرا أو كبيرا - إلى أجله . ذلكم أقسط عند الله ، وأقوم للشهادة ، وأدنى ألا ترتابوا ) .
لا تسأموا . . فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته . . ( ذلكم أقسط عند الله ) . . أعدل وأفضل . وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره . ( وأقوم للشهادة ) . فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها . وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد ، أو الواحد والواحدة . ( وأدنى ألا ترتابوا ) :
أقرب لعدم الريبة . الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد ، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد .
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع ، ودقة أهدافه ، وصحة إجراءاته . إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة .
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل . أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة . وتكفي فيهاشهادة الشهود تيسيرا للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد ، والتي تتم في سرعة ، وتتكرر في أوقات قصيرة . ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها ؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها ، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها :
تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ) .
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها . أما الإشهاد فموجب . وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب . ولكن الأرجح هو ذاك .
والأن - وقد انتهى تشريع الدين المسمى ، والتجارة الحاضرة ، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة - على الوجوب وعلى الرخصة - فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل . . لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة . فالأن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة .
( ولا يضار كاتب ولا شهيد . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم . واتقوا الله ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم ) .
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد ، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه . وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه . وهو احتياط لا بد منه . لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة . فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم ، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات ، والحيدة في جميع الأحوال . ثم - وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير ، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف ، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس ، لا من مجرد ضغط النص - يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية ؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم ، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم ، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم ، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان :
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا يونس ، أخبرنا{[4669]} ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من جحد آدم ، عليه السلام ، أن الله لما خلق آدم ، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلا يَزْهر ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هو ابنك داود . قال : أي رب ، كم عمره ؟ قال : ستون عامًا ، قال : رب زد في عمره . قال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عامًا ، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا ، فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت . فأبرز الله عليه الكتاب ، وأشهد عليه الملائكة " .
وحدثنا أسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، فذكره ، وزاد فيه : " فأتمها الله لداود مائة ، وأتمها لآدم ألف سنة " {[4670]} .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن يوسف بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة [ به ]{[4671]} .
هذا حديث غريب جدا ، وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة . وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه ، من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب{[4672]} عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة . ومن رواية داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة . ومن طريق محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة . ومن حديث هشام{[4673]} بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بنحوه{[4674]} .
فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ، وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } قال : أنزلت في السَّلَم إلى أجل معلوم .
وقال قتادة ، عن أبي حَسَّان{[4675]} الأعرج ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري .
وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجيح ، عن عبد الله بن كثير ، عن أبي المِنْهال ، عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسْلفُون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم " {[4676]} .
وقوله : { فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [ والحالة هذه ]{[4677]} للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أمَّة أمية لا نكتب ولا نحسب " {[4678]} فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب : أن الدّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا ؛ لأن كتاب الله قد سَهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمْر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم .
قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن ابتاع فليُشْهد .
وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف [ يكون ]{[4679]} ذلك ؟ قال : رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لأنه قد عصى ربه .
وقال أبو سعيد ، والشعبي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم : كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }
قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا ليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر " أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم . قال : كفى بالله شهيدًا . قال : ائتني بكفيل . قال : كفى بالله كفيلا . قال : صدقت . فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبًا ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زَجج موضعها ، ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار ، فسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا . فرضي بذلك ، وسألني شهيدًا ، فقلت : كفى بالله شهيدًا . فرضي بذلك ، وإني قد جَهِدْتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ، وإني اسْتَوْدعْتُكَها . فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف ، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبًا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ، فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه . قال : هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بألفك راشدًا " .
وهذا إسناد صحيح{[4680]} وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة{[4681]} معلقًا بصيغة الجزم ، فقال : وقال الليث بن سعد ، فذكره{[4682]} . ويقال : إنه رواه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث ، عنه .
وقوله : { لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي : بالقسط والحق ، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي : ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس ، ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم ، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب ، كما جاء في الحديث : " إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق " {[4683]} . وفي الحديث الآخر : " من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار " {[4684]} .
وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب .
وقوله : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ، وليتق الله في ذلك ، { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : لا يكتم منه شيئًا ، { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه ، { أَوْ ضَعِيفًا } أي : صغيرًا أو مجنونًا { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه . { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
وقوله { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم } أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ، { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ، كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عَمْرو ، عن المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا معشر النساء ، تصدقن وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار " ، فقالت امرأة منهن جَزْلة : وما لنا - يا رسول الله - أكثر أهل النار{[4685]} ؟ قال : " تُكْثرْنَ اللعن ، وتكفُرْنَ العشير ، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن " . قالت : يا رسول الله ، ما نقصان العقل والدين ؟ قال : " أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين " {[4686]} .
وقوله : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيَّد ، حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ، من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط . وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيًا .
وقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني : المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } أي : يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد ، ولهذا قرأ آخرون : " فَتُذكر " بالتشديد من التذكار . ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر{[4687]} فقد أبعد ، والصحيح الأول . والله أعلم .
وقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل : معناه : إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع بن أنس . وهذا كقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية .
وقيل - وهو مذهب الجمهور - : المراد بقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للأداء ، لحقيقة قوله : { الشُّهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن {[4688]} تحمَّل ، فإذا دعي لأدائها{[4689]} فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية ، والله أعلم .
وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ، وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت{[4690]} فأجب .
وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ، من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن زيد بن خالد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " {[4691]} .
فأما الحديث الآخر في الصحيحين : " ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يُستْشْهَدوا " ، وكذا قوله : " ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم " . وفي رواية : " ثم يأتي قوم يَشْهَدُون ولا يُسْتَشْهَدون " {[4692]} . فهؤلاء شهود الزور . وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري : أنها تعم الحالين : التحَمّل والأداء .
وقوله : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه } هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ، فقال : { وَلا تَسْأَمُوا } أي : لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }
وقوله { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } أي : هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو { أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أعدل { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ، كما هو الواقع غالبًا { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه ، فيفصل بينكم بلا ريبة .
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } أي : إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها .
فأما الإشهاد على البيع ، فقد قال تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير
في قول الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } يعني : أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن ، فأشهدوا على حقكم على كل حال . قال : وروي عن جابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، نحو ذلك .
وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }
وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب ، لا على الوجوب . والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني عمَارة بن خزيمة الأنصاري ، أن عمه حدثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه ، وإلا بعتُه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، قال : " أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال الأعرابي : لا والله ما بعتك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل{[4693]} قد ابتعته منك " . فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان ، فطفق الأعرابي يقول : هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك . فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك ! إن النبي {[4694]} صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا . حتى جاء خزَيْمة ، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول{[4695]} هلم شهيدًا يشهد أني{[4696]} بايعتك . قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : " بم تشهد ؟ " فقال : بتصديقك يا رسول الله . فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين .
وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري{[4697]} كلاهما عن الزهري ، به{[4698]} نحوه .
ولكن الاحتياط هو الإشهاد ، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري ، عن شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يُشْهد " .
ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، قال : ولم يخرجاه ، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين " {[4699]} .
وقوله : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قيل : معناه : لا يضار الكاتب ولا الشاهد ، فيكتب هذا خلاف ما يملي ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما .
وقيل : معناه : لا يضر بهما ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين - يعني ابن حفص - حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ، فيقولان : إنا على حاجة فيقول : إنكما قد أمرتما أن تجيبا . فليس له أن يضارهما .
ثم قال : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعطية ، ومقاتل بن حَيَّان ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك .
وقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : إن خالفتم ما أمرتم به ، وفعلتم ما نَهِيتم عنه ، فإنه فسق كائن بكم ، أي : لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه ، واتبعوا أمره واتركوا زجره{[4700]} { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] ، وكقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] .
وقوله : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها ، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}: اكتبوا الدين والأجل...
{وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا}: ولا ينقص المطلوب من الحق شيئا...
{فإن كان الذي عليه الحق سفيها}: جاهلا بالإملاء، {أو ضعيفا}: أو عاجزا، أو به حمق.
{أو لا يستطيع أن يمل هو}: لا يعقل الإملاء لعِيِّه، أو لِخَرَسه، أو لِسَفَهِه...
{أن تضل}: المرأة، يعني أن تنسى...
{تسأموا}: تملوا... لأن الكتاب أحصى للأجل وأحفظ للمال... وأجدر ألا تشكوا... ثم رخص في الاستثناء... يعني التجارة الحاضرة، إذا كانت يدا بيد على كل حال...
{ولا يضار كاتب ولا شهيد}: لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة...
قال مالك: لا يكتب الكتاب بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون على ما يكتبه: لقوله تعالى: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل}...
ابن رشد: سئل مالك عن قول الله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} ما تفسيره "أن يدعي قبل أن يشهد، أو يكون قد أشهد؟، فقال: إنما ذلك بعدما أشهدوا، وأما قبل أن يشهدوا فأرجو أن يكون في سعة، إذا كان ثم من يشهد، وليس كل أمر يجب على الرجل أن يشهد عليه. من الأمور أمور لا يجب على الرجل أن يشهد فيها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، {إذَا تَدَايَنْتُمْ}: إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به، أو تعاطيتم، أو أخذتم به {إلى أَجَلٍ مُسَمّى}: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلَم في كل ما جاز فيه السلَم شرى أجّل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمّى إذا كانت آجالها معلومة بحدّ موقوف عليه. وكان ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية في السلَم خاصة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
فإن قال قائل: وما وجه قوله: {بِدَيْنٍ} وقد دلّ بقوله: {إذَا تَدَايَنْتُمْ} عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال بدين؟ قيل: إن العرب لما كان مقولاً عندها تداينا بمعنى تجازينا وبمعنى تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين، أبان الله بقوله «بديِن» المعنى الذي قصد تعريفه من قوله «تداينتم» حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ}. ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع.
{فاكتُبُوهُ}: فاكتبوا الدّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض.
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب؟ فقال بعضهم: هو حقّ واجب، وفرض لازم.
وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ}... رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ}: {ولْيَكْتُبْ} كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين {كاتِبٌ بالعَدْلِ}: بالحقّ والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحقّ حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه. {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ}: ولا يأبينّ كاتب استكتب ذلك أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحقّ... عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} قال: واجب على الكاتب أن يكتب.
قد ذكرنا جماعة ممن قال: كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها. وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله عزّ وجلّ أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدلّ على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كانَ حَرِجا بتضييعه.
ولا وجه لاعتلال من اعتلّ بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ} لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به، حيث لا سبيل إلى الكتاب، أو إلى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض إذا كان الدّين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله: {فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ}. وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الاَخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ} ناسخا قوله: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ}، لوجب أن يكون قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءًا فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا} ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه، وفي السفر الذي فرضه الله عزّ وجلّ بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} وأن يكون قوله في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ناسخا قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا}. فيسأل القائل إن قول الله عزّ وجلّ: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ} ناسخ قوله: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ} ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم وما ذكرنا قوله، فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله، نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتْب الديون والحقوق منسوخ بقوله: {وَإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ}؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} كلام منقطع عن قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وإنما عنى بقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى، فأمن بعضكم بعضا، فليؤد الذي اؤتمن أمانته. قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله: {وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؟ وأما الذين زعموا أن قوله: {فَاكْتُبُوهُ} وقوله: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجلّ الذي أمر في كتابه، ويسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا بالآخر مثله.
{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا}: فليكتب الكاتب، وليملل الذي عليه الحقّ، وهو الغريم المدين. يقول: ليتولّ المدين إملال كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب، وليتّق الله ربه المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحقّ من حقه شيئا، أن ينقصه منه ظلما، أو يذهب به منه تعديّا، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته.
{فإن كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ}: فإن كان المدين الذي عليه المال سفيها، يعني جاهلاً بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب؛ أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور.
وقال آخرون: بل السفيه في هذا الموضع الذي عناه الله: الطفل الصغير. وأولى التأويلين بالآية، تأويل من قال: السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه، لما قد بينا قبل من أن معنى السفه في كلام العرب: الجهل.
وقد يدخل في قوله: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها} كل جاهل بصواب ما يملّ من خطئه من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم والنساء¹، لأنه أجل ذكره ابتدأ الآية بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تداينتم بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى} والصبيّ ومن يولى عليه لا يجوز مداينته، وأن الله عزّ وجلّ قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين بين الله صفاتهم غير الصنفين الاَخرين. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوّة على الإملال، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه، وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجز عن إملاله وإن كان شديدا رشيدا إما لعيّ لسانه أو خرس به، وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب. فوضع الله عنهم فرض إملال ذلك للعلل التي وصفنا إذا كانت بهم، وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي الحقّ بإملاله فقال: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ} يعني وليّ الحقّ.
ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الصغير، وأن الضعيف هو الكبير الأحمق لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله: {أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ} هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، بطل معنى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ} لأن العاقل الرشيد لا يولّى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الأحمق. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ}: بالحقّ.
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين، يقال: فلان شهيدي على هذا المال وشاهدي عليه. {مِنْ رِجالِكُمْ}: من أحراركم المسلمين دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار. {فإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ}: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجل وامرأتان على الشهادة... فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. {مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ}: من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم. {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى}:
اختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى} بفتح الألف من «أن» ونصب «تضل» و «تذكّر»، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرؤونه بتسكين الذال من «تُذْكِرَ» وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك. وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه: فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها جازت، كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور. فكأن كل واحدة منهما في قول متأولي ذلك بهذا المعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا.
وقرأ ذلك آخرون: «إنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتذَكّرُ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى» بكسر «إن» من قوله: «إنْ تَضِلّ» ورفع «تُذَكّرُ» وتشديده. كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان، إن نسيت إحداهما شهادتهما تذكرها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك، وانقطاع ذلك عما قبله.
ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى -على استئناف الخبر -عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. وتأويل الكلام على قراءته: إن تَضْلِلْ. والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح «أن» من قوله: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا} وبتشديد الكاف من قوله: {فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى. وإنما اخترنا ذلك في القراءة لإجماع الحجة من قدماء القراء والمتأخرين على ذلك، وأما اختيارنا «فتذكّر» بتشديد الكاف، فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر، فالتشديد به أولى من التخفيف.
{وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا}.
اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية؛ فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره، فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لم يجب. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه، والقيام بما عنده من الشهادة من الإجابة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي من إجابته إلى القيام بها. وقال آخرون: هو أمر من الله عزّ وجلّ والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة، ولكنه أمر ندب لا فرض. وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له.
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عزّ وجلّ قال: {وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء، وغير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء، لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحقّ أن يقال له شاهد، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام بشهادته، فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلوما أن المعنيّ بقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} من وصفنا صفته ممن قد استرعى شهادة أو شهد، فدعي إلى القيام بها، لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستحقّ اسم شهيد ولا شاهد، لما قد وصفنا قبل. مع أن في دخول الألف واللام في «الشهداء» دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عزّ وجل أهل الحقوق باستشهادهم بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأْتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءُ}. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل: ولا يأب شاهد إذا ما دعي. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرض عليه أن يكتب، كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله فسأله تعليمه، وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له. ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وقد فرضنا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حقّ أخيه المسلم. والشهداء: جمع شهيد.
{وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ}: ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحقّ، يعني قليله أو كبيره يعني أو كثيره {إلى أَجَلِهِ}، إلى أجل الحقّ، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال.
ومعنى قوله: {وَلا تَسأمُوا}: لا تملوا.
{ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ}: ذلكم اكتتاب كتاب الدّين إلى أجله، ويعني بقوله أقسط: أعدل عند الله.
{وأقْوَمُ للشّهادَةِ}: وأصوب للشهادة. وأصله من قول القائل: أقمته من عَوَجه، إذا سويته فاستوى. وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه، لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدين والمستدين على نفسه، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب، وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به، واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه.
{وأدْنَى أنْ لا تَرْتَابُوا}: {وأدْنَى} وأقرب، من الدنوّ: وهو القرب. ويعني بقوله: {أنْ لا تَرْتَابُوا} من أن لا تشكوا في الشهادة. ومعنى الكلام: ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحقّ، قليلاً أو كثيرا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحقّ والأجل إذا كان مكتوبا.
{إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ لا تَكْتُبُوها}.
ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوب التي لهم عليهم، ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك¹ لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبل المفارقة، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الاَخر كتابا بما وجب لهم قِبَلهم وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم، فلذلك قال تعالى ذكره: {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرونَها بَيْنَكُمْ} لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء، {فَليسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبوهَا} يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها، يعني التجارة الحاضرة.
{وأشْهِدُوا إذَا تَبايَعْتُمْ}: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسائه، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيدٍ ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه، لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري فأن يجحد البائع المبيع، وله بينة على ملكه ما قد باع، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه فيكون القول حينئذٍ قول البائع مع يمينه ويقضي له به، فيذهب مال المشتري باطلاً. وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلف على ذلك فيبطل حقّ البائع قِبَل المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عزّ وجلّ الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حقّ أحد الفريقين قِبَل الفريق الاَخر.
ثم اختلفوا في معنى قوله: {وأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟ فقال بعضهم: هو ندب إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وقال آخرون: الإشهاد على ذلك واجب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن الإشهاد على كل مبيع ومشترى حق واجب وفرض لازم، لما قد بينا من أن كل أمر لله ففرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد.
وقد دللنا على وَهْي قول من قال ذلك منسوخ بقوله: {فَلْيُؤدّ الّذِي اؤتمن أمانَتَهُ} فيما مضى فأغنى عن إعادته.
{وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}:
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله، فيكتب هذا ما لم يملله المملي، ويشهد هذا بما لم يستشهده الشهيد. وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك: ولا يضارّ كاتب ولا شهيد بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يضارّ المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد. وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضارَر على وجه ما لم يسمّ فاعله... ينطلق الذي له الحقّ فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذٍ لشغله وحاجته. وقال مجاهد: لا يقم عن شغله وحاجته، فيجد في نفسه أو يحرج.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك:"ولا يضارّ كاتب ولا شهيد" : ولا يضارّهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيب إلى الشهادة وهو غير فارغ، على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عزّ وجلّ في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب كقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} وكقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وما أشبه ذلك، فالواجب إذا كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما، لأنهما اثنان، وإنما غير مخاطبين بقوله: {وَلاَ يُضَارّ} بل النهي بقوله: {وَلاَ يُضَارّ} نهي للغائب غير المخاطب. فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما فِي سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلاً عنه. {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك، فإنه فسوق بكم، يعني إثم بكم ومعصية.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي، ويضارّ شهيد فيحوّل شهادته ويغيرها، فإنه فسوق بكم، يعني فإنه كذب... وقد دللنا فيما مضى على أن المعنيّ بقوله: {وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية. فقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} إنما هو إخبار من يضارّهما بحكمه فيهما، وأن من يضارّهما فقد عصى ربه وأثم به، وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.
{وَاتّقُوا اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه. {وَيُعَلّمُكُمْ اللّهُ}: ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به. {وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم ليجازيكم بها.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}. 169- التحقيق فيه: أن الله تعالى في سياق هذه الآية حث الناس على ما فيه مصلحتهم، والأصح الاستظهار بالبينة الكاملة [المنخول: 300] {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الآية لا تقضي إلا كون الشاهدين حجة، وجواز الحكم بقولهما. [المستصفى: 1/119]. 171- في الشهادة أمر آخر، وهو أن الآية سيقت للإرشاد إلى طريق الاحتياط ومن استشهد النساء مع وجود الرجال، فيحكم في حقه بمخالفة موجب الإرشاد. [شفاء الغليل: 104].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى {تجارة حَاضِرَةً} وسواء أكانت المبايعة بدين [أم] بعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد. والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك.
والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة...
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه...
{أو ضعيفاً} والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة، وهذا أيضاً قد يكون وليه أباً أو وصياً.
[و] الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، و {وليه} وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، و {وليه} وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأوْلى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق... وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق، وهذا قول الحسن، وجاء الفعل مضاعفاً في قوله: {أن يمل} لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل لغة قريش... و {بالعدل} معناه بالحق وقصد الصواب.
{وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في {شهيدين} دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى: {من رجالكم} نص في رفض الكفار والصبيان والنساء،... والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما...
{أن تضل إحداهما} قال القاضي أبو محمد: والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالاً، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها...
{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ}
قال القاضي أبو محمد: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء.
{ولا تسأموا} معناه تملوا، و {صغيراً أو كبيراً} حالان من الضمير في {تكتبوه}، وقد [نص على الصغير] اهتماماً به، وهذا النهي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هِيَ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ، مُبَيِّنَةٌ جُمَلًا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُرُوعِ، جِمَاعُهَا عَلَى اخْتِصَارٍ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ دُونَ الْإِكْثَارِ فِي اثِّنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنُ مَا كَانَ غَائِبًا... وَالْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْضَاهُ وَالْآخَرُ يَلْتَزِمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ}. يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَالنِّسْيَانُ مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ، وَالشَّيْطَانُ رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاسَ لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ حَتَّى لَا يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الْمُعَامَلَةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَمَنْ لَا يَكْتُبُ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ لِلَّذِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ بِالْعَدْلِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}. فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ... وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَمْرُ إرْشَادٍ؛ فَلَا يَكْتُبُ حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا أَمْلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ لَهُ، فَلَوْ قَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ: لِي كَذَا وَكَذَا لَمْ يَنْفَعْ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»...
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا}:...وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ نُخْبَتُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقَّ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يُمِلُّ، وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ لَا يُمِلُّونَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ صِنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَعْدِيدَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ، وَيَكُونُ مِنْ فَنِّ الْمُثَبَّجِ مِنَ الْقَوْلِ الرَّكِيكِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا فِي كَلَامٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. فَتَعَيَّنَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مَعْنًى لَيْسَ لِصَاحِبِهِ حَتَّى تَتِمَّ الْبَلَاغَةُ، وَتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ، وَيَرْتَفِعَ التَّدَاخُلُ الْمُوجِبُ لِلتَّقْصِيرِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ وَالضَّعِيفُ وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ، قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ السَّفِيهَ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ تَارَةً وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ أُخْرَى... وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ. وَقَدْ قَالُوا: الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ، وَفَتْحِهَا فِي الرَّأْيِ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ، وَكُلُّ ضَعِيفٍ لَا يَسْتَطِيعُ مَا يَسْتَطِيعُهُ الْقَوِيُّ؛ فَثَبَتَ التَّدَاخُلُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَتَحْرِيرُهَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ مَعَهُ النِّظَامُ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي ضَعْفِ الْعَقْلِ وَفَسَادِهِ، كَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ الشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}...
وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُهُ قِلَّةُ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ كَالطِّفْلِ نَظِيرُهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ}. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَهُوَ الْغَبِيُّ الَّذِي يَفْهَمُ مَنْفَعَتَهُ لَكِنْ لَا يَلْفِقُ الْعِبَارَةَ عَنْهَا. وَالْأَخْرَسُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ مَنْطِقَهُ عَنْ غَرَضِهِ؛ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ خَاصَّةً.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}... وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْوَلِيِّ فِي الْإِطْلَاقِ، يُقَالُ: وَلِيُّ السَّفِيهِ وَوَلِيُّ الضَّعِيفِ، وَلَا يُقَالُ وَلِيُّ الْحَقِّ، إنَّمَا يُقَالُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْوَصِيِّ جَائِزٌ عَلَى يَتِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْلَى فَقَدْ نَفَذَ قَوْلُهُ فِيمَا أَمْلَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الْمَحْجُورُ دُونَ وَلِيِّ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فَاسِدٌ إجْمَاعًا مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لَا يُوجِبُ حُكْمًا وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا. وَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيهٌ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ... إنْ تَصَرَّفَ بِسَدَادٍ نَفَذَ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ سَدَادٍ بَطَلَ. وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَرُبَّمَا بُخِسَ فِي الْبَيْعِ وَخُدِعَ، وَلَكِنَّهُ تَحْتَ النَّظَرِ كَائِنٌ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ مَوْقُوفٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ مِنْهُمْ إلَى الْمُعَامَلَةِ عَامَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِمْلَاءِ أَمْلَى عَنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْلَى عَنْهُ وَلِيُّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا}: اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ نَدْبٌ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَدْبٌ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {شَهِيدَيْنِ}. رَتَّبَ اللَّهُ الشَّهَادَاتِ بِحِكْمَتِهِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْحُدُودِ، فَجَعَلَهَا فِي كُلِّ فَنٍّ شَهِيدَيْنِ، إلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ قَرَنَ ثُبُوتَهَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، تَأْكِيدًا فِي السَّتْرِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ}... الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَالِغُونَ مِنْ ذُكُورِكُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا يُقَالُ لَهُ رَجُلٌ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ لَا يُقَالُ لَهَا رَجُلٌ أَيْضًا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ، وَعَيَّنَ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} الْمُسْلِمَ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا قَوْلَ لَهُ؛ وَعَنَى الْكَبِيرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا مَحْصُولَ لَهُ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِشْهَادِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ؛ فَأَمَّا الصَّغِيرُ فَيَحْفَظُ الشَّهَادَةَ؛ فَإِذَا أَدَّاهَا وَهُوَ رَجُلٌ جَازَتْ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى مَا يَتَحَقَّقُهُ وَيَعْلَمُهُ، فَإِنَّ السَّمْعَ فِي الْأَصْوَاتِ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ كَالْبَصَرِ لِلْأَلْوَانِ، فَمَا عَلِمَهُ أَدَّاهُ، كَمَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ بِاللَّمْسِ وَالشَّمِّ، وَيَأْكُلُ بِالذَّوْقِ، فَلِمَ لَا يَشْهَدُ عَلَى طَعَامٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَدْ ذَاقَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} جَوَازَ شَهَادَةِ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ... مَعَ الْعَدَالَةِ كَشَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَ بِالصِّيَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبْدَالِ، فَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَلَّا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، كَحُكْمِ سَائِرِ إبْدَالِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا؛ وَهَذَا لَيْسَ كَمَا زَعَمَهُ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّنَا ذَلِكَ لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ: فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فَهَذَا قَوْلٌ يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بَدَلَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ، فَكَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ بِمُطْلَقِ هَذِهِ الْعِوَضِيَّةِ...
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ}. هَذَا تَقْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ، وَقَصَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الرِّضَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَظِيمَةٌ؛ إذْ هِيَ تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ؛ فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَمَائِلُ يَنْفَرِدُ بِهَا، وَفَضَائِلُ يَتَحَلَّى بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ تُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّةُ رُتْبَةَ الِاخْتِصَاصِ بِقَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَيُحْكَمُ بِشُغْلِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِالْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُغَلَّبُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى قَوْلِهِ بِتَصْدِيقِهِ لَهُ فِي دَعْوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} دَلِيلٌ عَلَى تَفْوِيضِ الْقَبُولِ فِي الشَّهَادَةِ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا مَعْنًى يَكُونُ فِي النَّفْسِ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ عَلَيْهِ، وَيَقُومُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلَا يَكُونُ غَيْرُ هَذَا؛ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ لِغَيْرِهِ لَمَا وَصَلَ إلَيْهِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى مِنِ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى مَا خَفِيَ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي الشَّهَادَةِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنِ الْعَدَالَةِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَلَّا تُقْبَلَ شَهَادَةُ وَلَدٍ لِأَبِيهِ، وَلَا أَبٍ لِوَلَدِهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا كُلِّ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى وَصْلَةٍ تَقَعُ بِهَا التُّهْمَةُ، كَالصَّدَاقَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ... بَيَانُهُ فِي إلْزَامِ وَصْفِ الرِّضَا الْمُشَاهَدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِي أَكَّدَهُ بِالْعَدَالَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلَا يَجْتَمِعُ الْوَصْفَانِ حَتَّى تَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا شُرِطَ الرِّضَا وَالْعَدَالَةُ فِي الْمُدَايَنَةِ فَاشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ أَوْلَى... لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَالْجَدِّ وَالنَّسَبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}...أَنْ تُنَبِّهَهَا إذَا غَفَلَتْ... وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا} وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْقُبَ الضَّلَالَ وَالْغَفْلَةَ الذِّكْرُ...وَقَدْ أَشَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَّرَهَا إذَا نَسِيَتْ لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كَانَتْ امْرَأَتَيْنِ وَذَكَّرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَالرَّجُلِ يَسْتَذْكِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَذَكَّرُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فَكَرَّرَ قَوْلَهُ:"إحْدَاهُمَا" وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ... تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}... الْمُرَادَ هَاهُنَا حَالَةُ التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَدَاءِ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ التَّحَمُّلِ فَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكَافِيَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ إبَايَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَنْهَا إضَاعَةٌ لِلْحُقُوقِ، وَإِجَابَةُ جَمِيعِهِمْ إلَيْهَا تَضْيِيعٌ لِلْأَشْغَالِ؛ فَصَارَتْ كَذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَهَا أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ وِلَايَةً فَيُقِيمُونَ لِلنَّاسِ شُهُودًا يُعَيِّنُهُمْ الْخَلِيفَةُ وَنَائِبُهُ، وَيُقِيمُهُمْ لِلنَّاسِ وَيُبْرِزُهُمْ لَهُمْ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا، وَإِحْيَاؤُهَا لَهُمْ أَدَاءً. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِالْأُجْرَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ خَالِصَةٌ مِنْ قَوْمٍ اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يَمْشِي إلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا أَمْرٌ انْبَنَى عَلَيْهِ الشَّرْعُ، وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَفَهِمَتْهُ كُلُّ أُمَّةٍ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ...
. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مُسْتَحِقُّهَا الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: أَدَاؤُهَا نَدْبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدَاءَ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْضٌ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَدْ تَعَيَّنَ نَصْرُهُ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ؛ إحْيَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ}. هَذَا تَأْكِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ بِالدَّيْنِ، تَنْبِيهًا لِمَنْ كَسِلَ، فَقَالَ: هَذَا قَلِيلٌ لَا أَحْتَاجُ إلَى كَتْبِهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالتَّخْصِيصَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاطٍ وَنَحْوِهِ لِنَزَارَتِهِ وَعَدَمِ تَشَوُّفِ النُّفُوسِ إلَيْهِ إقْرَارًا أَوْ إنْكَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}. يُرِيدُ أَعْدَلَ يَعْنِي أَنْ يُكْتَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ عُمُومُ ذَلِكَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}. يَعْنِي أَدْعَى إلَى ثُبُوتِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا نَسِيَ الشَّاهِدُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} بِالشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ أَوْ قَالَ خِلَافَ مَا عِنْدَ الْمُتَدَايِنَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا رَأَى الْكِتَابَ فَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَا يُؤَدِّيهَا؛ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيبَةِ فِيهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَّا مَا يَعْلَمُ، لَكِنَّهُ يَقُولُ خُذَا خَطِّي، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ مَا كَتَبْت فِيهِ... قَالَ مُطَرِّفٌ: يُؤَدِّيهَا وَيَنْفَعُ إذَا لَمْ يَشُكَّ فِي كِتَابٍ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةِ...
فَإِذَا ذَهَبَ عِلْمُهُ ذَهَبَ نَفْعُ خَطِّهِ، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ خَطَّهُ بَدَلُ الذِّكْرَى، فَإِنْ حَصَلَتْ وَإِلَّا قَامَ مَقَامَهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْبُيُوعُ ثَلَاثَةٌ: بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ، وَبَيْعٌ بِأَمَانَةٍ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ، وَكَانَ كَأَبِيهِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقْتَدِيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ظَنَّ مَنْ رَأَى الْإِشْهَادَ فِي الدَّيْنِ وَاجِبًا أَنَّ سُقُوطَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ رَفْعٌ لِلْمَشَقَّةِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ. وَالظَّاهِرُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ بِهِ أَمْرُ إرْشَادٍ لِلتَّوَثُّقِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَاقِيَةً؛ تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْقُلُوبِ، فَأَمَّا إذَا تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَقَابَضَا، وَبَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقِلُّ فِي الْعَادَةِ خَوْفُ التَّنَازُعِ إلَّا بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، وَنَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِشْهَادِ فِي النَّقْدِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} أَمْرُ إرْشَادٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا فِي تَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي الدَّيْنِ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ... وَالْجُنَاحُ هَاهُنَا لَيْسَ الْإِثْمَ، إنَّمَا هُوَ الضَّرَرُ الطَّارِئُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مِنَ التَّنَازُعِ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ (أَفْعِلْ) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا... أَنَّهُ نَدْبٌ؛ قَالَهُ الْكَافَّةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ: «ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِأَدَاءٍ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ». وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ... وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُضَارَّ تَفَاعُلٌ مِنَ الضَّرَرِ. قَوْله تَعَالَى "يُضَارَّ "يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تُفَاعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِهَا، فَإِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ فَاعِلَانِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ نَهْيَهُمَا عَنِ الضَّرَرِ بِمَا يَكْتُبَانِ بِهِ أَوْ بِمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ مَفْعُولٌ بِهِمَا، فَيَرْجِعُ النَّهْيُ إلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ أَلَّا يَضُرَّا بِكَاتِبٍ وَلَا شَهِيدٍ فِي دُعَائِهِ فِي وَقْتِ شُغْلٍ وَلَا بِأَدَائِهِ وَكِتَابَتِهِ مَا سَمِعَ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ الْكُتَّابِ الشُّهَدَاءِ يَفْسُقُونَ بِتَحْوِيلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ كَتْمِهَا، وَإِمَّا مُتَعَامِلٌ يَطْلُبُ مِنَ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَدَعَ شُغْلَهُ لِحَاجَتِهِ أَوْ يُبَدِّلَ لَهُ كِتَابَتَهُ أَوْ شَهَادَتَهُ؛ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}... هَذَا الْكَلَامَ؛ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، فَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فِي الْحَضَرِ وَرَهَنَ وَلَمْ يَكْتُبْ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إنَّمَا يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِحَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُحْكَمُ لَهُ فِي الْوَثِيقَةِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَوْ رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَهُ حُكْمًا...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَخْتَصُّ بِمَا ارْتَهَنَ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا إلَّا إنْ كَانَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا صَارَ عِنْدَ الْعَدْلِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ لُغَةً مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعِدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ جَوَازَ رَهْنِ الْمُشَاعِ... لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ افْتِقَارَ الرَّهْنِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ...
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ... لِأَنَّهُ إذَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ مِنَ الْقَبْضِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا تَعَامَلَ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ دَيْنَهُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَبَضَهُ قَبْضًا... وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتِ الْمَرْأَةُ كَالِئَهَا لِزَوْجِهَا جَازَ، وَيَكُونُ قَبُولُهُ قَبْضًا... لِأَنَّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ آكَدُ قَبْضًا مِنَ الْمُعَيَّنِ؛ وَهَذَا لَا يَخْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ قَائِمًا مَقَامَ الشَّاهِدِ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ... وَمَا قُلْنَاهُ يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}. مَعْنَاهُ إنْ أَسْقَطَ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ، وَعَوَّلَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُعَامِلِ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ الْأَمَانَةَ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ... لَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا جَازَ إسْقَاطُهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَنَا فِي النِّكَاحِ... بَلْ هُوَ جَائِزٌ،...وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِشْهَادَ حَزْمٌ، وَالِائْتِمَانَ وَثِيقَةٌ بِاَللَّهِ مِنَ الْمُدَايِنِ، وَمُرُوءَةٌ مِنَ الْمَدِينِ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدْهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْت. فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْت: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْت: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ. وَإِنِّي اسْتَوْدَعَتْكهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا زِلْت جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِك فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ قَالَ: هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ شَيْئًا؟ قَالَ: أُخْبِرُك أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْت بِهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْك الَّذِي بَعَثْت فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: نَسْخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}. هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} بِكَسْرِ الْعَيْنِ؛ نَهْيُهُ الشَّاهِدَ عَنْ أَنْ يَضُرَّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْمٌ بِالْقَلْبِ كَمَا لَوْ حَوَّلَهَا وَبَدَّلَهَا لَكَانَ كَذِبًا، وَهُوَ إثْمٌ بِاللِّسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ شُهُودٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا اثْنَانِ وَاجْتَزَأَ بِهِمَا الْحَاكِمُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئْ بِهِمَا تَعَيَّنَ الْمَشْيُ إلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْإِثْبَاتُ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِدُعَاءِ صَاحِبِهَا، فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدَك لِي مِنْ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَالِ وَحِفْظِهِ، وَيُعْتَضَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ».
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في وجوه الاتصال بين هاتين الآيتين وما قبلهما صفوة ما قال المفسرون موضحا، ونذكر ما قاله كذلك: الكلام في الأموال بدأ بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله وذلك محض الرحمة وثنى بالنهي عن الربا الذي هو محض القساوة. ثم جاء بأحكام الدين والتجارة والرهن. أقول: وهي محض العدالة فقد أمرنا الله ببذل المال حيث ينبغي البذل وهو الصدقة والإنفاق في سبيله، وبتركه حيث ينبغي الترك وهو الربا، وبتأخيره حيث ينبغي التأخير وهو إنظار المعسر، وبحفظه حيث ينبغي الحفظ وهو كتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد. ذلك بأن من يضيع ماله بإهمال المحافظة عليه لا يكون محمودا عند الناس ولا مأجورا عند الله، كما قال الحسن عليه الرضوان في المغبون بالبيع.
قال الأستاذ الإمام: ولما كانت سلطة صاحب الربا قد زالت بتحريمه ولم يبق له إلا رأس المال وقد أمر بإنظار المعسر فيه وكان لا بد لحفظه من كتابته إذ ربما يخشى ضياعه بالإنظار إلى الأجل ـ جاء بعد أحكام الربا بأحكام الدين ونحوه وبقول بعض المعسرين: وله الحق، إنه تقدم في الآيات طلب الإنفاق والتصدق ثم حكم الربا الذي يناقض الصدقة ثم جاء هنا بما يحفظ المال الحلال لأن الذي يؤمر بالإنفاق والصدقة، ويترك الربا لا بد له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع ليتسنى له القيام بالإنفاق في سبيل الله ولا يضطر بالفاقة إلى الوقوع فيما حرم الله. وهذا يدل على أن المال ليس مذموما لذاته في دين الله ولا مبغضا عنده تعالى على الإطلاق كيف وقد شرع لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه بأن نستعمل عقولنا في تعرفها ونوجه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها؛ ففي آية الدين بعد ما تقدم احتراس أو استدراك مزيل ما عساه يتوهم من الكلام السابق، وهو أن المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والتشديد في تحريم الربا يدلان على أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الأديان السابقة، فكأنه يقول إنا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله، ولا بترك استثماره واستغلاله، إنما نأمركم بأن تكسبوه من طرق الحل وتنفقوا منه في طرق الخير والبر، أقول ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى في سورة النساء {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5] أي تقوم وثبت بها منافعكم ومصالحكم وحديث "نعم المال الصالح للمرء الصالح "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح، وإنما المذموم في الشرع أن يكون الإنسان عبدا للمال، يبخل به ويجمعه من الحرام والحلال، كما ورد في حديث أبي هريرة عند البخاري "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم" الحديث. ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصود، لما جاءت آية الدين بما جاءت به من المبالغة والتأكيد في كتابة الديْن والإشهاد عليه مع ما يعهد في أسلوب القرآن من الإيجاز لا سيما في الأحكام العملية، وقد عد القفال هذه التأكيدات في الآية فبلغت تسعة. أقول وفي الآية الأولى خمسة عشر أمرا ونهيا. وذكر الرازي وجها آخر للاتصال في النظم عزاه إلى قول المفسرين "قالوا إن المراد بالمداينة السلَم، فالله سبحانه لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلَم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل تلك طريقا حلالا وسبيلا مشروعا"...
وأقول: إن الفرق بين الربا القطعي المحرم في القرآن وبين السلم أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافا مضاعفة كربا النسيئة، ولولا ذلك لم يظهر لتحريم الربا مع إباحة السلم فائدة، إذ ليس في أمور المكاسب والمعايش تعبد لا تقبل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا. فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية.. أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا.. وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن -حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما...
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه. بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد. ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون!
{ولا يضار كاتب ولا شهيد. وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم. واتقوا الله ويعلمكم الله. والله بكل شيء عليم}. لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه. وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه. وهو احتياط لا بد منه. لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة. فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم؛ فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل.
والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله. فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى. فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى: « واللَّهُ على ما نَقول وكيل»، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك. والتداين تفاعل، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين. ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد.
والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة.
والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات، وأنّ قوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يَعُد المدينُ ذلك من سوء الظنّ به، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين.
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله. ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام، ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه.
وقوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب} نهي لمن تطْلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دُعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجّهاً للمتداينين. وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل...: إنّما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلاّ كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالؤوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل: إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدَهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفاً.
{وليُملل الذي عليه الحق}... في هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده... {واستشهدوا} بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق. ويكون قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} تكليفاً لمن يَطلب منه صاحبُ الحق أن يَشهد عليهما ألاّ يمتنع.
والشهادة حقيقتها: الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضورٍ لمشاهدة تعاقدٍ بين متعاقدَيْن أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحُبس. وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]. وجَعَل المأمورَ به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله.
ولهذا أمَرَ المستشهَدَ -بفتح الهاء- بعد ذلك بالامتثال فقال: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا}. والأمر في قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}. وقوله: {من رجالكم} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنّهم رجال، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير. وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا. وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم. والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام. فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تصدير الآية الكريمة بالنداء {يأيها الذين آمنوا} يشير إلى... أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم، وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب...