67- وقد جعلنا لكل أمة من أصحاب الشرائع السابقة شريعة خاصة بهم لائقة بعصرهم ، يعبدون اللَّه عليها إلى أن ينسخها ما يأتي بعدها . ومن أجل هذا جعلنا لأمتك - أيها النبي - شريعة يُعْبَدُ اللَّه عليها إلى يوم القيامة ، وإذا كان هذا هو أمرنا ووضعنا ، فلا يجوز أن يشتد في منازعتك فيه هؤلاء المتعبدون بأديانهم السابقة عليك ، فقد نَسختْ شريعتك شرائعهم ، فلا تلتفت لمجادلتهم ، واستمر في الدعوة إلى ربك حسبما يوحى إليك ، إنك لتسير على هدى ربك المستقيم .
{ 67 - 70 } { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { مَنْسَكًا } أي : معبدا وعبادة ، قد تختلف في بعض الأمور ، مع اتفاقها على العدل والحكمة ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } الآية ، { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : عاملون عليه ، بحسب أحوالهم ، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع ، خصوصا من الأميين ، أهل الشرك والجهل المبين ، فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها ، وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم ، وترك الاعتراض ، ولهذا قال : { فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } أي : لا ينازعك المكذبون لك ، ويعترضون على بعض ما جئتهم به ، بعقولهم الفاسدة ، مثل منازعتهم في حل الميتة ، بقياسهم الفاسد ، يقولون : " تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله " وكقولهم { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ونحو ذلك من اعتراضاتهم ، التي لا يلزم الجواب عن أعيانها ، وهم منكرون لأصل الرسالة ، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها ، بل لكل مقام مقال ، فصاحب هذا الاعتراض ، المنكر لرسالة الرسول ، إذا زعم أنه يجادل ليسترشد ، يقال له : الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها ، وإلا فالاقتصار على هذه ، دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز ، ولهذا أمر الله رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويمضي على ذلك ، سواء اعترض المعترضون أم لا ، وأنه لا ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء ، لأنك { على هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : معتدل موصل للمقصود ، متضمن علم الحق والعمل به ، فأنت على ثقة من أمرك ، ويقين من دينك ، فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك ، ولست على أمر مشكوك فيه ، أو حديث مفترى ، فتقف مع الناس ومع أهوائهم ، وآرائهم ، ويوقفك اعتراضهم ، ونظير هذا قوله تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } مع أن في قوله : { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } إرشاد لأجوبة المعترضين على جزئيات الشرع ، بالعقل الصحيح ، فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول ، والهدى : ما تحصل به الهداية ، من مسائل الأصول والفروع ، وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة ، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات .
وحين يصل السياق إلى هذا المقطع الفاصل من عرض دلائل القدرة في مشاهد الكون الكبرى يتوجه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمضي في طريقه ، غير ملتفت إلى المشركين وجدالهم له ؛ فلا يمكنهم من نزاعه في منهجه الذي اختاره الله له ، وكلفه تبليغه وسلوكه .
( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ، فلا ينازعنك في الأمر ، وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم . وإن جادلوك فقل : الله أعلم بما تعملون . الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون . ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض ? إن ذلك في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .
إن لكل أمة منهجا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد . هذا المنهج خاضع لسنن الله في تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات . وهي سنن ثابتة مطردة دقيقة . فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي أمة مهتدية إلى الله بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته . والأمة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة تزداد ضلالا كلما زادت اعراضا عن الهدى ودواعيه . .
وهكذا جعل الله لكل أمة منسكا هم ناسكوه ، ومنهجا هم سالكوه . . فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] نفسه بمجادلة المشركين ، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى ، ويمعنون في منسك الضلال . والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره ، ويجادلوه في منهجه . كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين . فهو منهج مستقيم : ( وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ) . .
فليطمئن إذن على استقامة منهجه . واستقامته هو على الهدى في الطريق . .
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم{[20409]} منسكا .
قال ابن جرير : يعني : لكل أمة نبي منسكا . قال : وأصل المنسك في كلام العرب : هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ، ويتردد إليه ، إما لخير أو شر . قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها{[20410]} .
فإن كان كما قال من أن المراد : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون المراد بقوله : { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي : هؤلاء المشركون . وإن كان المراد : " لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولهذا قال هاهنا : { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : فاعلوه - فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ؛ ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود .
وهذه كقوله : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ] .
وقوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا يقول : لكل جماعة قوم هي خلت من قبلك ، جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه وقضاء فرائضي وعملاً يلزمونه . وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شرّ يقال : إن لفلان منسكا يعتاده : يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شرّ . وإنما سميت مناسك الحجّ بذلك ، لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحجّ والعُمرة . وفيه لغتان : «مَنْسِك » بكسر السين وفتح الميم ، وذلك من لغة أهل الحجاز ، و «مَنْسَك » بفتح الميم والسين جميعا ، وذلك من لغة أسد . وقد قرىء باللغتين جميعا .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : لِكُلّ أُمةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا : أيّ المناسك عني به ؟ فقال بعضهم : عني به : عيدهم الذي يعتادونه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ يقول : عيدا .
وقال آخرون : عني به ذبح يذبحونه ودم يهريقونه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ قال : إراقة الدم بمكة .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هُمْ ناسِكُوهُ قال : إهراق دماء الهدي .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : مَنْسَكا قال : ذبحا وحجّا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمِنى لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الأنعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الأنعام . غير أن تلك لم تكن مناسك ، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا ولذلك قلنا : عني بالمنسك في هذا الموضع الذبح الذي هو بالصفة التي وصفنا .
وقوله : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ يقول تعالى ذكره : فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ؟ فأنك أولى بالحقّ منهم ، لأنك محقّ وهم مبطلون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ قال : الذبح .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلا يُنازِعُنّكَ فِي الأَمْرِ فلا تتحام لحمك .
وقوله : وَادْعُ إلى رَبّكَ يقول تعالى ذكره : وادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك في ذلك بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعد اتباعك وبعد التصديق بما جئتهم به من عند الله ، وتجنبوا الذبح للاَلهة والأوثان وتبرّءوا منها ، إنك لعلى طريق مستقيم غير زائل عن مجة الحقّ والصواب في نسكك الذي جعله لك ولأمتك ربك ، وهم الضلال على قصد السبيل ، لمخالفتهم أمر الله في ذبائحهم ومطاعمهم وعبادتهم الاَلهة .
و «المنسك » المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة ، وهو أيضاً موضع النسك ، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة{[8430]} ، وقوله { هم ناسكوه } يعطي أن المنسك المصدر ، ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه{[8431]} ، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح ، وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة ، وقوله { فلا ينازعنك } هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف ، وتحتمل معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أَن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية ، وقال أبو إسحاق : المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى التخويف ، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك ، فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ ، كما يراد في قولهم لا أرينك ها هنا أي لا تكن ها هنا ، وقرأت فرقة «فلا ينزعنَّك » ، وقوله { في الأمر } معناه على التأويل أَن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين والكتاب ونحوه ، وعلى أَن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح ، و «الهدى » في هذه الآية الإرشاد .
هذا متصل في المعنى بقوله : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم } [ الحج : 34 ] الآية . وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله : { وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [ الحج : 3738 ] إلى هنا ، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله } [ الحج : 34 ] الآية ليبنى عليه قوله : { فلا ينازعنك في الأمر } . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة ، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد . وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى ، قال النّابغة : وما هُريق على الأنصاب من جَسَد ( أي دم ) . وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا } [ الحج : 34 ] كما تقدم آنفاً .
فالجملة استئناف . والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة .
والمنسَك بفتح الميم وفتح السين : اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم . وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان ، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان . والضمير في { ناسكوه } منصوب على نزع الخافض ، أي ناسكون فيه .
وفي « الموطأ » : « أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، فقال الله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } الآية ، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه .
قال الباجي في « المنتقى » : « وهو قول ربيعة » . وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه ، أي نزلت في سنة تسع ، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة .
وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها ، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كافٍ في قطع منازعة معارضيه ، فالمعارضون هم المقصود بالنهي ، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به ، وهو من باب قول العرب : لا أعْرِفَنّك تفعل كذا ، أي لا تَفْعل فأعرِفك ، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه ، والمراد نهي السامع عن أسبابه ، وهو نهي للغير بطريق الكناية .
وقال الزجاج : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله ، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه . وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله . وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج .
واسم { الأمر } هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة ، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم ، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم ، فكان قوله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } كشفاً لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ ، وهو رمز التوحيد ، وأن ما عداه باطل طارىء عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا . وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } [ الحج : 72 ] ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب .
وقوله { وادع إلى ربك } عطف على جملة { فلا ينازعنك في الأمر } . عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع ، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين ، وفي حذف مفعول { ادع } إيذان بالتعميم .
وجملة { إنك لعلى هدى مستقيم } تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك . و { على } مستعارة للتمكن من الهدى .
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية ؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً ، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان . وفي هذا الخبر تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة .