محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ} (67)

{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ { 67 } }

{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا } أي وضعنا { مَنْسَكًا } أي شريعة ومتعبدا { هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } أي في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة ، وعدم وحدته . أو في أمر ما جئتهم به ، زعما بأنه يستغنى عنه بما شرع قبله . لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها ، وحياتها ومنشئها . ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها ، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك عنه . أو معناه : ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به . فلا تضرك منازعتهم . وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك ، لاستقرار الأمر على شرعتك . لأنها الطريق القويم .

هذا ، وقال ابن جرير [ انظر 198 من الجزء السابع عشر ] : أصل المنسك في كلام العرب ، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، لخير أو شر . يقال ( إن لفلان منسكا يعتاده ) يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر . وقد اختلف أهل التأويل في معنى ( النسك ) هنا ، فقيل : عيداً . وقيل : إراقة الدم ( ثم استظهر ) أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى . لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، أي فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم ( أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ) ؟ انتهى .

وعليه ، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى { جعلنا } الجعل القدري لا التشريعي . كما قال [ البقرة :48 ] { ولكلّ وجهة هو مولّيها } أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته . فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق . وهذا كقوله تعالى [ القصص 87 ] { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أشار له ابن كثير . ونقل الرازي عن ابن عباس ، في رواية عطاء ، أن المراد بالمنسك الشريعة والمنهاج . قال : وهو اختيار القفال ، لقوله تعالى [ المائدة 48 ] { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وهو الذي آثرناه أولا لظهوره فيه . والله أعلم .