بدأت السورة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل ما في السماوات والأرض . متبعة ذلك بمقتضيات هذا التسبيح من ملك السماوات والأرض ، والإحاطة بهما ، والتصرف فيهما ، ثم أمت بالإيمان بالله والإنفاق في سبيله ، وبينت اختلاف درجات الإنفاق باختلاف دواعيه ومقتضياته ، ثم عرضت صورة المؤمنين يوم القيامة ، يسعى نورهم أمامهم ومن حولهم ، وصورة المنافقين يلتمسون الانتظار من المؤمنين ، ليقتبسوا من نورهم ، وقد ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب .
وانتقلت بعد ذلك تستحث المؤمنين إلى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق ، وتبصرهم بمنازل المصدقين والمصدقات عند ربهم ، ومآل الكافرين المكذبين في الجحيم ، وتضرب الأمثال لهوان الدنيا وما حوته من متاع ، وعظم الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب ، وتطلب السبق إلى مغفرة الله ، وتطمئن النفوس إلى أن ما يصيب كل نفس من خير أو شر هو في كتاب عند الله ، لتذعن بالتسليم لقضاء الله ، ثم تحدثت عن إرسال الرسل وتتابعهم مؤيدين بالأدلة والكتب وأسباب القوة والعمل ، ليقوم الناس بالقسط ، ثم ختمت الآية بدعوة المؤمنين إلى التقوى ، ووعدهم بمضاعفة الرحمة ، والحظوة بالفضل الذي لا يقدر أحد على شيء منه إلا الله . لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
1- نزه الله تعالى ما في السماوات والأرض من الإنسان والحيوان والجماد ، وهو الغالب الذي يصرِّف الأمور بما تقتضيه الحكمة .
{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه ، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها ، [ والجوامد ] تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وأنها قانتة لربها ، منقادة لعزته ، قد ظهرت فيها آثار حكمته ، ولهذا قال : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ، في جميع أحوالها ، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها ، وعموم حكمته في خلقه وأمره .
سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها . هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله ؛ فلا تضن عليها بشيء ، ولا تحتجز دونها شيئا . . لا الأرواح ولا الأموال ؛ ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور . . وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض . موازينها هي موازين الله ، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين . كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله ، فتخشع لذكره ، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله . بذل النفس وبذل المال : ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين . هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وإن الله بكم لرؤوف رحيم . وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ، ولله ميراث السماوات والأرض . لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . وكلا وعد الله الحسنى . والله بما تعملون خبير ) .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق ؛ وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة ، والسباق إلى القيمة الباقية : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ، ثم يكون حطاما . وفي الآخرة عذاب شديد ، ومغفرة من الله ورضوان . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) . .
وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة .
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية ، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم ، في خلوص نادر ، وتجرد كامل ، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله . . .
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة ، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوى الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عندما ظهر الإسلام ، ودخل فيه الناس أفواجا ، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة ، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله .
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله ؛ وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال ؛ وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها ؛ فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها .
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها ، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب ، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى ، التي تصغر معها كل قيم الأرض ، وتذوب في حرارتها كل عوائقها !
كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين ، مختلطة غير متميزة . وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام ، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء ؛ مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن . وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم : ألم نكن معكم ? قالوا بلى ! ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم . وبئس المصير ) . .
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى . والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان ؛ كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) . . وهي إشارة إلى اليهود خاصة في الغالب . . وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب ؛ وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها - والتي توجد في كل مجتمع إسلامي - على نسق مؤثر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكية ، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر !
وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير ؛ تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه . فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح : ( سبح لله ما في السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ) . .
وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزا . ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش ، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه ، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال . ولكن سياق السورة تضمن كثيرا من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى . كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) . . وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار .
كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . إن ذلك على الله يسير . لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . والله لا يحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد . . كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر ، وهي في طريقها إلى الله . فلا تطير جزعا ، ولا تبطر فرحا ، وهي تواجه الضراء والسراء . ولا تشرك بالله سببا ولا ظرفا ولا حادثا . فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم . ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله .
وقد سار سياق السورة في علاج موضوعها في شوطين اثنين أثبتنا أولهما في صدر هذا التقديم . وجاءت فقرات كثيرة من الشوط الثاني في خلاله . وهما مترابطان مطردان . فنكتفي بهذا القدر ، لنسير مع سياق السورة بالتفصيل .
( سبح لله ما في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم . له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم . هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور . . )
هذا المطلع الموحي المختار . وما حشد فيه من خصائص الألوهية الفاعلة المؤثرة المبدعة لكل شيء ، المحيطة بكل شيء ، المهيمنة على كل شيء ، العليمة بكل شيء . وما تعرضه من إبداع اليد القادرة وهي تجول في محيط السماوات والأرض ، وتتلطف إلى خبايا الصدور وطوايا القلوب ، وتشرف من عل على الوجود وما فيه ومن فيه . .
هذا المطلع الموحي المختار يتناول القلوب ، فيهزها هزا ، ويأخذها أخذا ، وهو يجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله ، ولا ترى إلا الله ، ولا تحس بغير الله ، ولا تعلم لها مهربا من قدرته ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعا إلا إليه ، ولا متوجها إلا لوجهه الكريم :
( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) . .
هكذا ينطلق النص القرآني الكريم في مفتتح السورة ؛ فتتجاوب أرجاء الوجود كله بالتسبيح لله . ويهينم كل شيء في السماوات والأرض ، فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء . ولا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله . فالله يقول . ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه . . ( سبح لله ما في السماوات والأرض )تعني سبح لله ما في السماوات والأرض . . ولا تأويل ولا تعديل ! ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح ، يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة ، كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها ، واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها . .
وقد جاء في القرآن الكريم : ( يا جبال أوبي معه والطير ) . . فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود ! وجاء في الأثر : أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت . إني لأعرفه الآن " . . وروى الترمذي - بإسناده - عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال : كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول : " السلام عليك يا رسول الله " . . وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال : " خطب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى لزق جذع . فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة ، فنزل الرسول فمسحه ، فسكن " . .
وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . . ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) . . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن . فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولا من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود .
( وهو العزيز الحكيم ) . . فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة . فهو المهيمن على كل شيء بقوته ، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن بن أبي بلال ، عن عِرْبَاض بن سارية ، أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن بقية ، به {[1]} وقال الترمذي : حسن غريب .
ورواه النسائي عن ابن أبي السرح ، عن ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكره مُرْسَلا لم يذكر عبد الله بن أبي بلال ، ولا العرباض بن سارية{[2]}
والآية المشار إليها في الحديث هي - والله أعلم - قوله : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة{[3]} .
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات والأرض أي : من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية الأخرى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] .
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الذي قد خضع له كل شيء { الحكيم } في خلقه وأمره وشرعه
القول في تأويل قوله تعالى : { سَبّحَ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : سَبّحَ لِلّهِ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ أن كلّ ما دونه من خلقه يسبحه تعظيما له ، وإقرارا بربوبيته ، وإذعانا لطاعته ، كما قال جلّ ثناؤه : تُسَبّحُ لَهُ السّمَوَاتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقُهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .
وقوله : وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول : ولكنه جلّ جلاله العزيز في انتقامه ممن عصاه ، فخالف أمره مما في السموات والأرض من خلقه الحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ أمرهم ، وتصريفه إياهم فيما شاء وأحبّ .
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السموات والأرض ذكر ها هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته لأنه دلالة جبلية لا تختلف باختلاف الحالات ومجيء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه وهو العزيز الحكيم حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح .
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين وقال غيره مكية قال القاضي أبو محمد ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا والله اعلم وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب{[1]} .
قال أكثر المفسرين : التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام أن التسبيح مما ذكر دائم مستمر ، واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح ، فقال الزجاج وغيره : والقول بالحقيقة أحسن ، وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وهذا كله في الجمادات ، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة ، وقال قوم من المفسرين : التسبيح في هذه السورة : الصلاة ، وهذا قول متكلف ، فأما فيمن يمكن منه ذلك فسائغ ، وأما سجود ظلال الكفار هي صلاتهم ، وأما في الجمادات فيقلق ، وذلك أن خضوعها وخشوع هيئاتها قد يسمى في اللغة سجوداً أو استعارة كما قال الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
ترى الأكم فيها سُجَّداً للحوافر . . . {[10949]}
ويبعد أن تسمى تلك صلاة الأعلى تحامل .
وقوله : { ما في السماوات والأرض } عام في جميع المخلوقات ، وقال بعض النحاة ، التقدير : ما في السماوات وما في الأرض ، ف «ما » نكرة موصوفة حذفها وأقام الصفة مقامها ، { وهو العزيز } بقدرته وسلطانه ، { الحكيم } بلطفه وتدبيره وحكمته .
هذه السورة تسمى في عهد الصحابة { سورة الحديد } ، فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني والبزاز أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } فأسلم ، وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة ، لوقوع لفظ { الحديد } فيها في قوله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } .
وهذا اللفظ وإن ذكر في سورة الكهف في قوله تعالى { آتوني زبر الحديد } وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار ، فلم تسم به لأنها سميت باسم الكهف للاعتناء بقصة أهل الكهف ، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديد السلاح من سيوف ودروع وخوذ ، تنويها به إذا هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته وإلهام الناس صنعه لتحصل به منافع لتأييد الدين ودفاع المعتدين كما قال تعالى { فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } .
وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلف مثله في غيرها ، فقال الجمهور : مدنية . وحكى ابن عطية عن النقاش : أن ذلك إجماع المفسرين ، وقد قيل : إن صدرها مكي لما رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { ألم يإن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلى قوله { وكثير منهم فاسقون } إلا أربع سنين . عبد الله بن مسعود أول الناس إسلاما ، فتكون هذه الآية مكية .
وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابن عباس : أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن ، فيصار إلى الجمع بين الروايتين أو الترجيح ، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سندا ، وكلام ابن مسعود يرجح على ما روي عن أنس وابن عباس لأنه أقدم إسلاما وأعلم بنزول القرآن ، وقد علمت آنفا أن صدر هذه السورة كان مقروءا قبل إسلام عمر بن الخطاب . قال ابن عطية يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم ، ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا اهـ .
وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله .
وأقول الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية وأن ذلك ينتهي إلى قوله { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين ، وبعضه نزل بمكةمثل آية { ألم يإن للذين آمنوا } الآية كما في حديث مسلم . ويشبه ان يكون آخر السورة قوله { إن الله قوي عزيز } نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها أو في آخرها .
قلت : وفيها آية { لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح } الآية ، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية . فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت { سورة الفتح } ، فهي متهينة لأن تكون مدنية فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني .
وروي أن نزولها كان يوم الثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله .
وقد عدت السورة الخامسة والتسعين في ترتيب نزول السور جريا على قول الجمهور : إنها مدنية فقالوا : نزلت بعد سورة الزلزال وقبل سورة القتال ، وغذا روعي قول ابن مسعود : إنها نزلت بعد البعثة بأربع سنين . وما روي من أن سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه قرأ صحيفة لأخته فاطمة فيها صدر سورة الحديد لم يستقم هذا العد لأن العبرة بمكان نزول السورة لا نزول آخرها فيشكل موضعها في عد نزول السورة .
وعلى قول ابن مسعود يكون ابتداء نزولها آخر سنة أربع من البعثة فتكون من أقدم السور نزولا فتكون نزلت قبل سورة الحجر وبعد غافر ، فالوجه أن معظم آياتها نزل بعد سورة الزلزال .
وعدت آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام ثمانا وعشرين ، وفي عد أهل البصرة والكوفة تسعا وعشرين .
وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول : إن فيهن ىية افضل من ألف آية وقال الترمذي حديث حسن غريب .
وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله تعالى { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة : التذكير بجلال الله تعالى ، وصفاته العظيمة ، وسعة قدرته وملكوته ، وعموم تصرفه ، ووجوب وجوده ، وسعة علمه ، والأمر بالإيمان بوجوده ، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه من الآيات البينات .
والتنبيه لما في القرآن من الهدي وسبيل النجاة ، والتذكير برحمة الله ورأفته بخلقه .
والتحريض على الإنفاق في سبيل الله ، وأن المال عرض زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثواب ما انفق منه في مرضاة الله .
والتخلص إلى ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير وضد ذلك للمنافقين والمنافقات .
وتحذير المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلب التي وقع فيها أهل الكتاب من قبلهم من إهمال ما جاءهم من الهدى حتى قست قلوبهم وجر ذلك إلى الفسوق كثيرا منهم .
والدعوة إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية .
والأمر بالصبر على النوائب والتنويه بحكمة إرسال الرسل والكتب لإقامة أمور الناس على العدل العام .
والإيماء إلى فضل الجهاد في سبيل الله .
وتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة نوح وإبراهيم عليهما السلام على أن في ذريتهما وهتدين وفاسقين .
وأن الله أتبعهما برسل آخرين منهم عيسى عليه السلام الذي كان آخر رسول أرسل بشرع قبل الإسلام ، وأن أتباعه كانوا على سنة ن سبقهم ، منهم مؤمن ومنهم كافر .
ثم أهاب بالمسلمين أن يخلصوا الإيمان تعريضا بالمنافقين ووعدهم بحسن العاقبة وأن الله فضلهم على الأمم لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء .
افتتاح السورة بذكر تسبيح الله وتنزيهه مؤذن بأن أهم ما اشتملت عليه إثبات وصف الله بالصفات الجليلة المقتضية أنه منزّه عما ضل في شأنه أهل الضلال من وصفه بما لا يليق بجلاله ، وأول التنزيه هو نفي الشريك له في الإِلهية فإن الوحدانية هي أكبر صفة ضل في كنهها المشركون والمانوية ونحْوهم من أهل التثنية وأصحاب التثليث والبراهمة ، وهي الصفة التي ينبىء عنها اسمه العَلَم أعني « الله » لما علمت في تفسير الفاتحة من أن أصله الإِله ، أي المنفرد بالإِلهية .
وأتبع هذا الاسم بصفات ربانية تدل على كمال الله تعالى وتنزّهُهُ عن النقص كما يأتي بيانه فكانت هذه الفاتحة براعة استهلال لهذه السورة ، ولذلك أتبع اسمهُ العلَم بعشر صفات هي جامعة لصفات الكمال وهي : العزيز ، الحكيم ، له ملك السماوات والأرض ، يحيي ، ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وهو بكل شيء عليم .
وصيغ فعل التسبيح بصيغة الماضي للدلالة على أن تنزيهه تعالى أمر مقرر أمر الله به عباده من قبل وألهمه الناس وأودعَ دلائله في أحوال ما لا اختيار له ، كما دل عليه قوله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] وقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] .
ففي قوله : { سبح } تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند .
واللام في قوله : { لله } لام التبيين . وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعدَ بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف ، قال تعالى : { فاسجد له وسبحه } [ الإنسان : 26 ] ، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم : شكرتُ لك ، ونصحتُ لك ، وقوله تعالى : { ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] ، وقولهم سَقْيا لك ورعيا لك ، وأصله : سقَيَك ورَعْيَك .
و { ما في السموات والأرض } يعم الموجودات كلها فإن { ما } اسم موصول يعمّ العقلاء وغيرهم ، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب ، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين ، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة ، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبىء به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير ، فإن جُعل عموم { ما في السموات والأرض } مخصوصاً بمن يتأتى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة .
وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل { سبح } بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملاً في حقيقته ومجازه .
والعزيز : الذي لا يغلب ، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإِلهية .
و { الحكيم } الموصوف بالحكمة ، وهي وضع الأفعال حيثُ يليق بها ، وهي أيضاً العلم الذي لا يخطىء ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل ، وتقدما في سورة البقرة . وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خُلقت لأجله ، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مدنية في قول الجمهور. وقال الكلبي هي مكية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين، وقال غيره مكية... ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا، لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا، والله اعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن بن أبي بلال، عن عِرْبَاض بن سارية، أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية". وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من طرق عن بقية، به وقال الترمذي: حسن غريب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
مقصودها: بيان أن عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث إلى الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن كل شائبة نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم "أئنا لمجموعون أو آباؤنا الأولون " المقتضي لجهاد من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكمالات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سوء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها. هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضن عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئا.. لا الأرواح ولا الأموال؛ ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور.. وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض. موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين. كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه.
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله. بذل النفس وبذل المال: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه. فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين. هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وإن الله بكم لرؤوف رحيم. وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض. لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. وكلا وعد الله الحسنى. والله بما تعملون خبير).
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون)..
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق؛ وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة، والسباق إلى القيمة الباقية: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما. وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)..
وظاهر من سياق السورة -إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة- أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة.
فإلى جانب السابقين من المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم، في خلوص نادر، وتجرد كامل، وانطلاق من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله...
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة، كانت هناك -في الجماعة الإسلامية- فئة أخرى ليست في هذا المستوى الإيماني الخالص الرفيع -وبخاصة بعد الفتح عندما ظهر الإسلام، ودخل فيه الناس أفواجا، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله.
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله؛ وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال؛ وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها؛ فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها.
وهؤلاء- بصفة خاصة -هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى، التي تصغر معها كل قيم الأرض، وتذوب في حرارتها كل عوائقها!
كذلك كانت هنالك طائفة أخرى- غير هؤلاء وأولئك -هي طائفة المنافقين، مختلطة غير متميزة. وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء؛ مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن. وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ذلك هو الفوز العظيم. يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم. قيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم: ألم نكن معكم؟ قالوا بلى! ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني، حتى جاء أمر الله، وغركم بالله الغرور. فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا، مأواكم النار هي مولاكم. وبئس المصير)..
وهذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى. والسورة تشير إلى شيء من أحوالهم ومواقفهم السابقة والحاضرة في ذلك الأوان؛ كالإشارة السابقة إلى قسوة قلوبهم عند تحذير الذين آمنوا أن يكونوا (كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم).. وهي إشارة إلى اليهود خاصة في الغالب.. وكالإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..
ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب؛ وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى، ومن خلوص وتجرد، ومن بذل وتضحية، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس التي كانت تواجهها- والتي توجد في كل مجتمع إسلامي -على نسق مؤثر، أشبه ما يكون بنسق السور المكية، حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر!
وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير؛ تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه. فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفردة، وسيطرتها المطلقة على الوجود، ورجعة كل شيء إليها في نهاية المطاف، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور، واتجاه كل شيء إليها بالعبادة والتسبيح: (سبح لله ما في السماوات والأرض. وهو العزيز الحكيم. له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير. له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور. يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وهو عليم بذات الصدور)..
وهذا المطلع بذاته وبإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزا. ويوقع فيها الرهبة والخشية والارتعاش، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه، والتجرد من العوائق والأثقال المعوقة عن تلبية الهتاف إلى الخلاص من الشح بالأنفس والأموال. ولكن سياق السورة تضمن كثيرا من المؤثرات تتخلل ذلك الهتاف وتؤكده في مواضع شتى. كتلك الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).. وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة وما يتم فيها من الأمور الكبار.
كذلك جاءت لمسة أخرى ترد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطرة على الوجود: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. إن ذلك على الله يسير. لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. والله لا يحب كل مختال فخور. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد.. كي تستقر النفس وتطمئن لما يصيبها من خير أو شر، وهي في طريقها إلى الله. فلا تطير جزعا، ولا تبطر فرحا، وهي تواجه الضراء والسراء. ولا تشرك بالله سببا ولا ظرفا ولا حادثا. فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم. ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه السورة تسمى في عهد الصحابة {سورة الحديد}، فقد وقع في حديث إسلام عمر بن الخطاب عند الطبراني والبزاز أن عمر دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} فأسلم، وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة، لوقوع لفظ {الحديد} فيها في قوله تعالى {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}.
وهذا اللفظ وإن ذكر في سورة الكهف في قوله تعالى {آتوني زبر الحديد} وهي سابقة في النزول على سورة الحديد على المختار، فلم تسم به لأنها سميت باسم الكهف للاعتناء بقصة أهل الكهف، ولأن الحديد الذي ذكر هنا مراد به حديد السلاح من سيوف ودروع وخوذ، تنويها به إذا هو أثر من آثار حكمة الله في خلق مادته وإلهام الناس صنعه لتحصل به منافع لتأييد الدين ودفاع المعتدين كما قال تعالى {فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}.
وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي لم يختلف مثله في غيرها، فقال الجمهور: مدنية. وحكى ابن عطية عن النقاش: أن ذلك إجماع المفسرين، وقد قيل: إن صدرها مكي لما رواه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلى قوله {وكثير منهم فاسقون} إلا أربع سنين. عبد الله بن مسعود [من] أول الناس إسلاما، فتكون هذه الآية مكية.
وهذا يعارضه ما رواه ابن مردويه عن أنس وابن عباس: أن نزول هذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة من ابتداء نزول القرآن، فيصار إلى الجمع بين الروايتين أو الترجيح، ورواية مسلم وغيره عن ابن مسعود أصح سندا، وكلام ابن مسعود يرجح على ما روي عن أنس وابن عباس لأنه أقدم إسلاما وأعلم بنزول القرآن، وقد علمت آنفا أن صدر هذه السورة كان مقروءا قبل إسلام عمر بن الخطاب. قال ابن عطية يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم، ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا اهـ.
وروي أن نزولها كان يوم ثلاثاء استنادا إلى حديث ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر ورواه الديلمي عن جابر بن عبد الله.
وأقول الذي يظهر أن صدرها مكي كما توسمه ابن عطية وأن ذلك ينتهي إلى قوله {وإن الله بكم لرؤوف رحيم} وأن ما بعد ذلك بعضه نزل بالمدينة كما تقتضيه معانيه مثل حكاية أقوال المنافقين، وبعضه نزل بمكة مثل آية {ألم يأن للذين آمنوا} الآية كما في حديث مسلم. ويشبه أن يكون آخر السورة قوله {إن الله قوي عزيز} نزل بالمدينة ألحق بهذه السورة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها أو في آخرها.
قلت: وفيها آية {لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح} الآية، وسواء كان المراد بالفتح في تلك الآية فتح مكة أو فتح الحديبية. فإنه أطلق عليه اسم الفتح وبه سميت {سورة الفتح}، فهي متهينة لأن تكون مدنية، فلا ينبغي الاختلاف في أن معظم السورة مدني...
وورد في فضلها مع غيرها من السور المفتتحة بالتسبيح ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: إن فيهن آية أفضل من ألف آية. وقال الترمذي حديث حسن غريب.
وظن ابن كثير أن الآية المشار إليها في حديث العرباض هي قوله تعالى {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} لما ورد في الآثار من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة: التذكير بجلال الله تعالى، وصفاته العظيمة، وسعة قدرته وملكوته، وعموم تصرفه، ووجوب وجوده، وسعة علمه، والأمر بالإيمان بوجوده، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من الآيات البينات.
والتنبيه لما في القرآن من الهدي وسبيل النجاة، والتذكير برحمة الله ورأفته بخلقه.
والتحريض على الإنفاق في سبيل الله، وأن المال عرض زائل لا يبقى منه لصاحبه إلا ثواب ما انفق منه في مرضاة الله.
والتخلص إلى ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة من خير وضد ذلك للمنافقين والمنافقات.
وتحذير المسلمين من الوقوع في مهواة قساوة القلب التي وقع فيها أهل الكتاب من قبلهم من إهمال ما جاءهم من الهدى حتى قست قلوبهم وجر ذلك إلى الفسوق كثيرا منهم.
والدعوة إلى قلة الاكتراث بالحياة الفانية.
والأمر بالصبر على النوائب والتنويه بحكمة إرسال الرسل والكتب لإقامة أمور الناس على العدل العام.
والإيماء إلى فضل الجهاد في سبيل الله.
وتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة نوح وإبراهيم عليهما السلام على أن في ذريتهما مهتدين وفاسقين.
وأن الله أتبعهما برسل آخرين منهم عيسى عليه السلام الذي كان آخر رسول أرسل بشرع قبل الإسلام، وأن أتباعه كانوا على سنة ن سبقهم، منهم مؤمن ومنهم كافر.
ثم أهاب بالمسلمين أن يخلصوا الإيمان تعريضا بالمنافقين ووعدهم بحسن العاقبة وأن الله فضلهم على الأمم لأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... نستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:
الأوّل: الآيات الأولى من هذه السورة لها بحث جامع ولطيف حول التوحيد وصفات الله تعالى، وتذكّر ما يقرب من عشرين صفة من الصفات الإلهية، حيث تجعل الإنسان المدرك لها في مستوى عال من المعرفة الإلهيّة.
الثاني: يتحدّث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.
الثالث: يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، حيث إنّ القسم الأوّل يأخذ طريقه إلى الجنّة في ظلّ نور إيمانهم، والقسم الثاني يبقى في ظلمات الشرك والكفر، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الأصول الإسلامية الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد.
الرابع: تتحدّث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك، وعن مصير الأقوام الضالّة من الأمم السابقة. الخامس: جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث حول الإنفاق في سبيل الله، وخصوصاً في تقوية أسس الجهاد في سبيل الله، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.
السادس: في قسم قصير من الآيات إلاّ أنّه واف ومستدلّ يأتي الحديث عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.
السابع: وفيه تتحدّث الآيات عن سلبية الرهبانية والانزواء الاجتماعي وأنّ ذلك يمثّل ابتعادا عن الخطّ الإسلامي.
ومن الطبيعي أنّ بين ثنايا هذه البحوث وردت نقاط أخرى متناسبة شكلت في النهاية مجموعة اتجاهات بنّاءة في مجال الإيقاظ والهداية...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سبح لله ما في السماوات} يعني ذكر الله الملائكة وغيرهم والشمس والقمر والنجوم {و} ما في {والأرض} من الجبال، والبحار، والأنهار، والأشجار، و الدواب، والطير، والنبات، وما بينهما يعني الرياح، والسحاب، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهم {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"سَبّحَ لِلّهِ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ "أن كلّ ما دونه من خلقه يسبحه تعظيما له، وإقرارا بربوبيته، وإذعانا لطاعته، كما قال جلّ ثناؤه: "تُسَبّحُ لَهُ السّمَوَاتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقُهُونَ تَسْبِيحَهُمْ".
وقوله: "وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" يقول: ولكنه جلّ جلاله العزيز في انتقامه ممن عصاه، فخالف أمره مما في السموات والأرض من خلقه.
"الحَكِيمُ" في تدبيره أمرهم، وتصريفه إياهم فيما شاء وأحبّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جاء في بعض الفواتح {سَبّحَ} على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وكل واحد منهما معناه: أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه، وذلك هجيراه وديدنه، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى: {وتسبحوه} [الفتح: 9] وأصله: التعدي بنفسه، لأنّ معنى سبحته: بعدته عن السوء، منقول من سبح إذا ذهب وبعد، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في: نصحته، ونصحت له، وإما أن يراد بسبح لله: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام أن التسبيح مما ذكر دائم مستمر، واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح، فقال الزجاج وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وقد تقدم القول فيه غير مرة، وهذا كله في الجمادات، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة...
المسألة الأولى: التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء، وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد.
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء، وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال، وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام... المسألة الثانية: جاء في بعض الفواتح {سبح} على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي، وتكون مسبحة أبدا في المستقبل، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها... والله أعلم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها، والجوامد تسبح بحمد ربها... {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها، في جميع أحوالها، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها، وعموم حكمته في خلقه وأمره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..لا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله. فالله يقول. ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه.. (سبح لله ما في السماوات والأرض) تعني سبح لله ما في السماوات والأرض.. ولا تأويل ولا تعديل! ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح، يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة...
وقد جاء في القرآن الكريم: (يا جبال أوبي معه والطير).. فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود! وجاء في الأثر: أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت. إني لأعرفه الآن".. وروى الترمذي -بإسناده- عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول: " السلام عليك يا رسول الله".. وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال: " خطب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى لزق جذع. فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة، فنزل الرسول فمسحه، فسكن".. وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه).. (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس).. (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن. فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولا من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود. (وهو العزيز الحكيم).. فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة. فهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة بذكر تسبيح الله وتنزيهه مؤذن بأن أهم ما اشتملت عليه إثبات وصف الله بالصفات الجليلة المقتضية أنه منزّه عما ضل في شأنه أهل الضلال من وصفه بما لا يليق بجلاله، وأول التنزيه هو نفي الشريك له في الإِلهية فإن الوحدانية هي أكبر صفة ضل في كنهها المشركون والمانوية ونحْوهم من أهل التثنية وأصحاب التثليث والبراهمة، وهي الصفة التي ينبئ عنها اسمه العَلَم أعني « الله» لما علمت في تفسير الفاتحة من أن أصله الإِله، أي المنفرد بالإِلهية.
وأتبع هذا الاسم بصفات ربانية تدل على كمال الله تعالى وتنزّهُهُ عن النقص كما يأتي بيانه فكانت هذه الفاتحة براعة استهلال لهذه السورة، ولذلك أتبع اسمهُ العلَم بعشر صفات هي جامعة لصفات الكمال وهي: العزيز، الحكيم، له ملك السماوات والأرض، يحيي، ويميت، وهو على كل شيء قدير، هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهو بكل شيء عليم.
وصيغ فعل التسبيح بصيغة الماضي للدلالة على أن تنزيهه تعالى أمر مقرر أمر الله به عباده من قبل وألهمه الناس وأودعَ دلائله في أحوال ما لا اختيار له، كما دل عليه قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد: 15] وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44].
ففي قوله: {سبح} تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند.
واللام في قوله: {لله} لام التبيين. وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعدَ بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف، قال تعالى: {فاسجد له وسبحه} [الإنسان: 26]، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم: شكرتُ لك، ونصحتُ لك، وقوله تعالى: {ونقدس لك} [البقرة: 30]، وقولهم سَقْيا لك ورعيا لك، وأصله: سقَيَك ورَعْيَك.
و {ما في السموات والأرض} يعم الموجودات كلها فإن {ما} اسم موصول يعمّ العقلاء وغيرهم، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبئ به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير، فإن جُعل عموم {ما في السموات والأرض} مخصوصاً بمن يتأتى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة.
وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل {سبح} بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملاً في حقيقته ومجازه.
والعزيز: الذي لا يغلب، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإِلهية.
و {الحكيم} الموصوف بالحكمة، وهي وضع الأفعال حيثُ يليق بها، وهي أيضاً العلم الذي لا يخطئ ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل، وتقدما في سورة البقرة. وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خُلقت لأجله، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وهو العزيز الحكيم}، إشارة إلى الصفة التي جعلت الحق سبحانه هو وحده المستحق لأن يكون منزها معظما مطاعا من كافة خلقه، فهو سبحانه الذي خضع كل شيء لعزته، وهو الذي تجلى في تقديره وتدبيره وتشريعه بالغ علمه وحكمته.