المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

4- يسألك المؤمنون - أيها الرسول - ماذا أحل الله لهم من طعام وغيره فقل لهم : أحلّ الله لكم كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحلّ لكم ما تصطاده الجوارح التي علمتموها الصيد بالتدريب ، مستمدين ذلك مما علمكم الله . فكلوا من صيدها الذي أرسلتموها إليه وأمسكته عليكم ، واذكروا اسم الله عند إرسالها ، واتقوا الله بالتزام ما شرع لكم ، ولا تتجاوزوه ، واحذروا مخالفة الله فيه ، فإنه سريع الحساب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

{ 4 ْ } { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ } من الأطعمة ؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ } وهي كل ما فيه نفع أو لذة ، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل ، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري ، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر ، إلا ما استثناه الشارع ، كالسباع والخبائث منها .

ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث ، كما صرح به في قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ }

{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } أي : أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية . دلت هذه الآية على أمور :

أحدها : لطف الله بعباده ورحمته لهم ، حيث وسع عليهم طرق الحلال ، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح ، والمراد بالجوارح : الكلاب ، والفهود ، والصقر ، ونحو ذلك ، مما يصيد بنابه أو بمخلبه .

الثاني : أنه يشترط أن تكون معلمة ، بما يعد في العرف تعليما ، بأن يسترسل إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر ، وإذا أمسك لم يأكل ، ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ْ } أي : أمسكن من الصيد لأجلكم .

وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه ، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه .

الثالث : اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما ، لقوله : { مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } مع ما تقدم من تحريم المنخنقة . فلو خنقه الكلب أو غيره ، أو قتله بثقله لم يبح [ هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها ، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي : المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم- ]{[254]}

الرابع : جواز اقتناء كلب الصيد ، كما ورد في الحديث الصحيح ، مع أن اقتناء الكلب محرم ، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه .

الخامس : طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد ، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا ، فدل على طهارته .

السادس : فيه فضيلة العلم ، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده ، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده .

السابع : أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما ، ليس مذموما ، وليس من العبث والباطل . بل هو أمر مقصود ، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به .

الثامن : فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد ، قال : لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك .

التاسع : فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح ، وأنه إن لم يسم الله متعمدا ، لم يبح ما قتل الجارح .

العاشر : أنه يجوز أكل ما صاده الجارح ، سواء قتله الجارح أم لا . وأنه إن أدركه صاحبه ، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها .

ثم حث تعالى على تقواه ، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة ، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }


[254]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

( يسألونك : ماذا أحل لهم ؟ قل : أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه . واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب . اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان - ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .

إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ؛ يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة ، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ؛ ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ؛ خشية أن يكون الإسلام قد حرمه ؛ وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره .

والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية . . لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية . . لقد أشعر المسلمين - الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة - أنهم يولدون من جديد ؛ وينشأون من جديد . كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة ، وعظمة الوثبة ، وجلال المرتقى ، وجزالة النعمة . فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم . وأن يحذروا عن مخالفته . . وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق ، وثمرة تلك الهزة العنيفة .

لذلك راحوا يسألون الرسول [ ص ] بعد ما سمعوا آيات التحريم :

( ماذا أحل لهم ؟ ) .

ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه .

وجاءهم الجواب :

( قل : أحل لكم الطيبات . . . ) . .

وهو جواب يستحق التأمل . . إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة : إنهم لم يحرموا طيبا ، ولم يمنعوا عن طيب ؛ وإن كل الطيبات لهم حلال ، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث . . والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية . كالميتة والدم ولحم الخنزير . أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب ، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام . وهو نوع من الميسر .

ويضيف إلى الطيبات - وهي عامة - نوعا منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم ؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي ، ومثلها كلاب الصيد ، أو الفهود والأسود . مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة : أي يكبلها ويصطادها :

( وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب ) . .

وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكبلة المعلمة المدربة ، أن تمسك على صاحبها : أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد ؛ فلا تأكل منه عند صيده ؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها ، فجاعت . فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها ، لا تكون معلمة ؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها . ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله ؛ ولو جاءت به حيا ولكنها كانت أكلت منه ؛ فلا يذكى ؛ ولو ذبح ما كان حلالا . .

والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة ؛ فقد علموها مما علمهم الله . فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح ؛ وأقدرهم على تعليمها ؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها . . وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ، ولا مناسبة تعرض ، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى : حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء . هو الذي خلق ، وهو الذي علم ، وهو الذي سخر ؛ وإليه يرجع الفضل كله ، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان ، يصل إليه المخلوق . . فلا ينسى المؤمن لحظة ، أن من الله ، وإلى الله ، كل شيء في كيانه هو نفسه ؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث ؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه ، وكل هزة عصب ، وكل حركة جارحة . . ويكون بهذا كله " ربانيًا " على الاعتبار الصحيح .

والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح . ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ؛ فيكون هذا كالذبح له ؛ واسم الله يذكر عند الذبح ، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء .

ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله ؛ ويخوفهم حسابه السريع . . فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن ؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله ، وشعورا بجلاله ، ومراقبة له في السر والعلانية :

( واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بَدَنِه ، أو في دينه ، أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة{[9084]} الضرورة ، كما قال : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } كما [ قال ]{[9085]} في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : أنه { يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [ الآية : 157 ] .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن عَدِيّ بن حاتم ، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين{[9086]} سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } قال سعيد [ بن جبير ]{[9087]} يعني : الذبائح الحلال الطيبة لهم . وقال مقاتل : [ بن حيان ]{[9088]} [ في قوله : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ]{[9089]} فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه{[9090]} وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات .

رواه ابن أبي حاتم{[9091]} وقال ابن وَهْبٍ : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس . فقال : ليس هو من الطيبات .

وقوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي : أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما اصطدتموه{[9092]} بالجوارح ، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك : علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وهن{[9093]} الكلاب المعلمة{[9094]} والبازي ، وكل طير يعلم للصيد{[9095]} والجوارح : يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .

رواه ابن أبى حاتم ، ثم قال : وروي عن خَيْثَمَة ، وطاوس ، ومجاهد ، ومكحول ، ويحيى بن أبي كثير ، نحو ذلك . وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح . وروي عن علي بن الحسين مثله . ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قول الله [ عز وجل ]{[9096]} { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك .

ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي ، ثم قال : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البُزاة وغيرها من الطير ، فما أدركتَ فهو لك ، وإلا فلا تطعمه .

قلت : والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب{[9097]} ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها{[9098]} كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق . وهذا{[9099]} مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد ، حدثنا عيسي بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ، فقال : " ما أمسك عليك فَكُلْ " . {[9100]}

واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه ؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ " فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر{[9101]} ؟ فقال : " الكلب الأسود شيطان " {[9102]} وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا{[9103]} منها كل أسود بَهِيم " . {[9104]}

وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن : جوارح ، من الجرح ، وهو : الكسب . كما تقول{[9105]} العرب : فلان جَرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا . ويقولون : فلان لا جارح له ، أي : لا كاسب له ، وقال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] أي : ما كسبتم من خير وشر .

وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت{[9106]} بقتلها ؟ قال : فسكت ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى ، فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل " .

وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن زيد بن الحباب بإسناده ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن{[9107]} عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله . قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت ، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبَان بن صالح ، به . وقال : صحيح ولم يخرجاه . {[9108]}

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرَمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا{[9109]} رافع في قتل الكلاب ، حتى بلغ العَوالي فدخل{[9110]} عاصم بن عَدِيٍّ ، وسعد بن خَيْثَمةَ ، وعُوَيْم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } [ الآية ]{[9111]}

ورواه الحاكم من طريق سِمَاك ، عن عكرمة{[9112]} وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية : إنه في قتل الكلاب .

وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يحتمل أن يكون حالا من الضمير في { عَلَّمْتُمْ } فيكون حالا من الفاعل ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو { الْجَوَارِحِ } أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه{[9113]} [ الجوارح ]{[9114]} بمخالبها أو أظفارها{[9115]} فيستدل بذلك - والحالة هذه - على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ؛ ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى{[9116]} وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ؛ ولهذا قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فمتى كان{[9117]} الجارحة معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد ، وإن قتله بالإجماع .

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله . فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك{[9118]} عليك " . قلت : وإن قتلن ؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب{[9119]} ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " . قلت له : فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فَخَزق{[9120]} فكله ، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ ، فلا تأكله " . وفي لفظ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخْذ الكلب ذكاته " . وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه . " {[9121]} فهذا دليل للجمهور{[9122]} وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا .

ذكر الآثار بذلك :

قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا وَكِيع ، عن شُعْبَة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه{[9123]} - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب . وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة ، وعمر{[9124]} بن عامر ، عن قتادة . وكذا رواه محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان .

ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن{[9125]} موسى ، عن يزيد ، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ{[9126]} والقاسم ؛ أن{[9127]} سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر{[9128]} عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم{[9129]} الدؤلي ؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة{[9130]} - يعني : [ إلا ]{[9131]} بضعة .

ورواه شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن بكير بن الأشَجِّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المُثَنَّى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي هريرة قال : لو أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المُعْتَمِر قال : سمعت عُبَيد الله{[9132]} وحدثنا هناد ، حدثنا{[9133]} عبدة ، عن عبيد الله{[9134]} بن عمر - عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله{[9135]} فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .

وكذا رواه عبيد الله{[9136]} بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، عن نافع .

فهذه الآثار ثابتة عن سلمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وابن عمر . وهو محكي عن علي ، وابن عباس . واختلف فيه عن عطاء ، والحسن البصري . وهو قول الزهري ، وربيعة ، ومالك . وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وأومأ إليه في الجديد .

وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني ، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه ، وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي " .

ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر ، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان ، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع . {[9137]}

وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا - يقال له : أبو ثعلبة - قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مُكَلَّبة ، فأفتني في صيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك " . فقال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " نعم " . قال : وإن أكل منه ؟ قال : " نعم ، وإن أكل منه " . قال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي . فقال : " كُلْ ما ردت عليك قوسك " قال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " وإن تغيب عنك ما لم يصل ، أو تجد فيه أثر غير سهمك " . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : " اغسلها وكل فيها " . {[9138]} .

هكذا رواه أبو داود{[9139]} وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود ، من طريق بُسْر بن عبيد الله{[9140]} عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " {[9141]}

وهذان إسنادان جيدان ، وقد روى الثوري ، عن سِماك بن حَرْب ، عن عَدِيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان من كلب ضار أمسك عليك ، فكل " . قلت : وإن أكل ؟ قال : " نعم " .

وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى ، عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي ، عن عَدي مثله . {[9142]}

فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب . وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم . وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع{[9143]} فأكل من الصيد لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ ، وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح . وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه " النهاية " أن لو فصل مفصل هذا التفصيل ، وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم ، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة ، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عَدِيّ ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم ؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن حماد ، عن{[9144]} إبراهيم ، عن ابن عباس ؛ أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يَعُدْ ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل . {[9145]}

وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان .

وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا مُجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا منها ؟ قال : " يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه " ثم قال : " ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك " . قلت : وإن قتل ؟ قال : " وإن قتل ، ما لم يأكل " . قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها ؟ قال : فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك " . قال : قلت : إنا قوم نرمي ، فما يحل لنا ؟ قال : " ما ذكرت اسم الله عليه وخزَقَتْ فكل " .

فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم .

وقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي : عند الإرسال ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم{[9146]} وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا : " إذا أرسلت كلبك ، فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [ بن حنبل ]{[9147]} - في المشهور عنه{[9148]} - التسمية - عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن{[9149]} الجمهور ، أن{[9150]} المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال ، كما قال{[9151]} السُّدِّي وغير واحد .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج .

وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال : " سَمّ الله ، وكُل بيمينك ، وكل مما يليك " . {[9152]} وفي صحيح البخاري : عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها{[9153]} أم لا ؟ فقال : " سَمّوا الله أنتم وكلوا . " {[9154]}

حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام ، عن بُدَيل ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو{[9155]} كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل : باسم الله{[9156]} أوله وآخره " .

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، به{[9157]} وهذا منقطع بين عبد الله{[9158]} بن عبيد بن عمير وعائشة ، فإنه لم يسمع منها هذا الحديث ، بدليل ما رواه الإمام أحمد :

حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي - عن بديل ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ؛ أن امرأة منهم - يقال لها : أم كلثوم - حدثته ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال : " أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .

[ و ]{[9159]} رواه أحمد أيضا ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن هشام الدستوائي ، به{[9160]} وقال الترمذي : حسن صحيح .

حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح{[9161]} حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي ، وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه{[9162]} وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره .

فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت{[9163]} قولك في آخر ما تأكل : باسم الله أوله وآخره ؟ فقال : أخبرك عن ذلك إن جدي أمية بن مخشى{[9164]} - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل ، والنبي ينظر ، فلم يسم ، حتى كان في آخر طعامه لقمة ، فقال : باسم الله أوله وآخره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سَمّى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه " .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث جابر بن صبح{[9165]} الراسبي أبي بشر البصري{[9166]} ووثقه ابن مَعِين والنسائي ، وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به الحجة . {[9167]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة ، عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود - عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[9168]} على طعام ، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9169]} فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية ، كأنما تُدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يُدفع ، فذهب يضع يده في الطعام ، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9170]} بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل{[9171]} بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده ، إن يده في يدي مع يدهما{[9172]} يعني الشيطان . وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به . {[9173]}

حديث آخر : روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي{[9174]} من طريق ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله{[9175]} عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مَبِيت لكم ولا عَشَاء ، وإذا دخل فلم{[9176]} يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم{[9177]} المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم{[9178]} المبيت والعشاء " . لفظ أبي داود .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشِيّ بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجل{[9179]} تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله ، يبارك لكم فيه " .

ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، من طريق الوليد بن مسلم . {[9180]}


[9084]:في ر، أ: "في حال".
[9085]:زيادة من أ.
[9086]:في أ: "الطائي".
[9087]:زيادة من أ.
[9088]:زيادة من د، أ.
[9089]:زيادة من أ.
[9090]:في أ: "أن تصيبوه"
[9091]:سنن أبي داود برقم (2817).
[9092]:في د: " ما صدتموه".
[9093]:في د: "وهي".
[9094]:في أ: "المعلمين".
[9095]:في د، أ: "يعلم الصيد".
[9096]:زيادة من ر.
[9097]:في د: "كالصيد بالكلاب".
[9098]:في ر: "بمخاليبها".
[9099]:في د: "وهو".
[9100]:تفسير الطبري (9/550).
[9101]:في أ: "الأصفر".
[9102]:صحيح مسلم برقم (510).
[9103]:في أ: "وقالوا".
[9104]:صحيح مسلم برقم (1573) وسنن أبي داود برقم (74) وسنن النسائي (1/177) وسنن ابن ماجة برقم (365).
[9105]:في أ: "يقول".
[9106]:في د: "أمر".
[9107]:في ر: "يستأذن عليه".
[9108]:ورواه الطبري في تفسيره (9/545) من طريق زيد بن الحباب به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/326) من طريق موسى بن عبيدة به. قال الهيثمي في المجمع (4/42): "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت: وقد توبع: تابعه محمد بن إسحاق. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/235)، والحاكم في المستدرك (2/311) من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق به مختصرا.
[9109]:في أ: "بعث أبي" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[9110]:في د: "فجاء".
[9111]:زيادة من د.
[9112]:تفسير الطبري (9/546) والمستدرك (2/311).
[9113]:في د: "تصيد".
[9114]:زيادة من ر.
[9115]:في أ: "وأظفارها".
[9116]:أشلاه استشلى: أي دعاه إليه.
[9117]:في أ: "كانت".
[9118]:في أ: "أمسكن".
[9119]:في ر: "كلب ما".
[9120]:في أ: "فخرق"
[9121]:صحيح البخاري برقم (5483) وصحيح مسلم برقم (1929).
[9122]:في ر، أ: "الجمهور".
[9123]:في ر: "ثلثه".
[9124]:في أ: "وعمرو".
[9125]:في ر: "عن".
[9126]:في أ: "عن حميد عن ابن عبد الله المزني".
[9127]:في أ: "بكر".
[9128]:في أ: "بكر".
[9129]:في أ: "هشيم".
[9130]:في ر: "جذية".
[9131]:زيادة من ر.
[9132]:في أ: "عبد الله".
[9133]:في د: "بن".
[9134]:في أ: "عبد الله".
[9135]:في أ: "اسم الله عليه".
[9136]:في أ: "عبد الله".
[9137]:تفسير الطبري (9/565، 566).
[9138]:في أ: "منها".
[9139]:سنن أبي داود برقم (2857).
[9140]:في ر: "يوسف بن سيف"، وفي أ: "يونس بن سيف".
[9141]:سنن أبي داود برقم (2852) ولم أجده في سنن النسائي.
[9142]:ورواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929) من طريق زكريا بن أبي زائدة، به.
[9143]:في أ: "فجاع".
[9144]:في ر، أ: "بن".
[9145]:تفسير الطبري (9/557).
[9146]:في أ: "المكلب".
[9147]:زيادة من ر، أ.
[9148]:في أ: "عند".
[9149]:في أ: "عند".
[9150]:في أ: "وأن".
[9151]:في أ: "قاله".
[9152]:صحيح البخاري برقم (5376) وصحيح مسلم برقم (2022).
[9153]:في ر، أ: "عليه".
[9154]:صحيح البخاري برقم (5507).
[9155]:في ر: "أما لو أنه".
[9156]:في أ: "باسم الله على".
[9157]:المسند (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (3264).
[9158]:في أ: "عبيد الله".
[9159]:زيادة من ر.
[9160]:المسند (6/265)، (6/246) وسنن أبي داود برقم (3767) وسنن الترمذي برقم (1858) وسنن النسائي الكبرى برقم (10112).
[9161]:في أ: "صبيح"
[9162]:في أ: "الطعام".
[9163]:في أ: "أفرأيت".
[9164]:في ر: "خالد بن أمية بن مخشى".
[9165]:في أ: "صبيح".
[9166]:المسند (4/336) وسنن أبي داود برقم (3768) وسنن النسائي الكبرى برقم (10113).
[9167]:في أ: "لا يقوم به حجة.
[9168]:زيادة من أ.
[9169]:زيادة من أ.
[9170]:زيادة من و، أ.
[9171]:في أ: "فيستحل".
[9172]:في أ: "بيديهما".
[9173]:المسند (5/382) وصحيح مسلم برقم (2017) وسنن أبي داود برقم (3766) وسنن النسائي الكبرى برقم (6754).
[9174]:صحيح مسلم برقم (2018) وسنن أبي داود برقم (3765) وسنن النسائي الكبرى برقم (6757) وسنن ابن ماجة برقم (3887).
[9175]:في أ: "فذكر اسم الله".
[9176]:في أ: "ولم".
[9177]:في أ: "أدركتكم".
[9178]:في أ: "أدركتكم".
[9179]:في أ: "فعلكم".
[9180]:المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجة برقم (3286).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يسألك يا محمد أصحابك ما الذي أُحلّ لهم أكله من المطاعم والمآكل ، فقل لهم : أحلّ منها الطيبات ، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح ، وأحلّ لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح ، وهن الكواسب من سباع البهائم والطير ، سميت جوارح لجرحها لأربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد ، يقال منه : جرح فلان لأهله خيرا : إذا أكسبهم خيرا ، وفلان جارحة أهله : يعني بذلك : كاسبهم ، ولا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسب ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

ذَاتَ خَدّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ***يُذْكِرُ الجارحَ ما كانَ اجْتَرَحْ

يعني : اكتسب . وترك من قوله : وَما عَلّمْتُمْ : «وصيد » ما علمتم من الجوارح اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره . وذلك أن القوم فيما بلغنا كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصيده ، فأنزل الله عزّ ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الاَية فاستثنى مما كان حرم اتخاذه منها ، وأمر بقُنية كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن لهم باتخاذ ذلك . ذكر الخير بذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حباب العكلي ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، قال : أخبرنا صالح عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع ، قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه ، فأذن له ، فقال : «قد أذنّا لَكَ يا رَسُولَ اللّه » ، قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرتَ بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، فقتل حتى بلغ العوالي ، فدخل عاصم بن عديّ وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أُحلّ لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مكَلّبِينَ .

حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، قال : حدثونا عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، قالوا : يا رسول الله ، فماذا يحلّ لنا من هذه الأمة ؟ فنزلت : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ . . . الاَية .

ثم اختلف أهل التأويل في الجوارح التي عنى الله بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ فقال بعضهم هو كلّ ما علّم الصيد فتعلمه من بهيمة أو طائر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : كل ما عُلّم فصاد : من كلب ، أو صقر ، أو فَهِد ، أو غيره .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن : مُكَلّبِينَ قال : كلّ ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في صيد الفهد ، قال : هو من الجوارح .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : الطير ، والكلاب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن عطاء ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد : مُكَلّبِينَ قال : من الكلاب والطير .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : من الطير والكلاب .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعبة ( ح ) وثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الهيثم ، عن طلحة بن مصرف ، قال : خيثمة بن عبد الرحمن : هذا ما قد بينت لك أن الصقر والبازي من الجوارح .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت الهيثم يحدّث عن طلحة الإيامي ، عن خيثمة ، قال : أنبئت أن الصقر ، والباز ، والكلب : من الجوارح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عليّ بن حسين ، قال : الباز الصقر من الجوارح .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الباز والصقر من الجوراح المكلّبين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ يعني بالجوارح : الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِح مُكَلّبِينَ قال : من الكلاب وغيرها ، من الصقور والبِيزان وأشباه ذلك مما يعلّم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ الجوارح : الكلاب والصقور المعلمة .

حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار سمع عبيد بن عمير يقول في قوله : مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : الكلاب والطير .

وقال آخرون : إنما عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ الكلاب دون غيرها من السباع . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ قال : هي الكلاب .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ يقول : أحلّ لكم صيد الكلاب التي علمتموهن .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أما ما صاد من الطير والبُزاة من الطير ، فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعَمه .

وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : كلّ ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح ، وإن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم ، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ : كلّ جارحة ، ولم يخصص منها شيئا ، فكل جارحة كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع فحلال أكل صيدها . وقد روِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحو ما قلنا في ذلك خبر ، مع ما في الاَية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك ، وهو ما :

حدثنا به هناد ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازيّ ، فاقل : «ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ » .

فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح ، ففي ذلك دلالة بينة على فساد قول من قال : عنى الله بقوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ : ما علمنا من الكلاب خاصة دون غيرها من سائر الجوارح .

فإن ظنّ ظانّ أن في قوله مُكَلّبِينَ دلالة على أن الجوارح التي ذكرت في قوله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ : هي الكلاب خاصة ، فقد ظنّ غير الصواب ، وذلك أن معنى الاَية : قل أحلّ لكم أيها الناس في حال مصيركم أصحاب كلاب الطيبات وصيد ما علّمتموه الصيد من كواسب السباع والطير . فقوله : مُكَلّبِينَ صفة للقانص ، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه ، وهو نظير قول القائل يخاطب قوما : أحلّ لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك إخبار القوم أن الله جلّ ذكره أحلّ لهم في حال كونهم أهل إيمان الطيبات ، وصيد الجوارح التي أعلمهم أنه لا يحلّ لهم منه إلا ما صادوه بها ، فكذلك قوله : أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مكَلّبِينَ لذلك نظيره في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها ، لا أنه إعلام من الله عزّ ذكره أنه لا يحلّ من الصيد إلا ما صادته الكلاب .

القول في تأويل قوله تعالى : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : تُعَلّمُونَهُنّ : تؤدّبون الجوارح ، فتعلمونهنّ طلب الصيد لكم مما علمكم الله ، يعني بذلك : من التأديب الذي أدبكم الله والعلم الذي علمكم .

وقد قال بعض أهل التأويل : معنى قوله : مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ : كما علمكم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ يقول : تعلمونهنّ من الطلب كما علمكم الله .

ولسنا نعرف في كلام العرب «من » بمعنى الكاف ، لأن «من » تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض ، والكاف بمعنى التشبيه . وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره إذا تقارب معنياهما ، فأما إذا اختلفت معانيهما فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عقيب الاَخر ، وكتاب الله وتنزيله أحرى الكلام أن يجنب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح ، قال : حدثنا أبو هانىء ، عن أبي بشر ، قال : حدثنا عامر ، أن عديّ بن حاتم الطائي ، قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزلت هذه الاَية : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ .

قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : هو أن يُسْتَشْلَى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه ، ويستجيب له إذا دعاه ، ولا يفرّ منه إذا أراده ، فإذا تتابع ذلك منه مرارا كان معلّما . وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عصام ، قال : أخبرنا ابن جرج ، قال : قال عطاء : كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلّم ويمسك ويصيد فهو ميَتة ، ولا يكون قتله إياه ذكاة حتى يعلّم ويُمسك ويصيد ، فإن كان ذلك ثم قَتَل فهو ذكاته .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : المعلّم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه ، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو المعلى ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : إذا أرسل الرجل الكلب فأكل من صيده فقد أفسده ، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله فزعم أنه إنما أمسك على نفسه والله يقول مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلمُوَنهنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ . فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلم ، وأنه ينبغي أن يضرب ويعلم حتى يترك ذلك الخلق .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معمر الرقي ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا أخذ الكلب فقتل فأكل ، فهو سبع .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : لا يأكل منه ، فإنه لو كان معلما لم يأكل منه ولم يتعلم ما علمته ، إنما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبيّ ، عن ابن عباس ، بنحوه .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس ، قال : إذا أكلت الكلاب فلا تأكل .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، بمثله .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : فعلت لعامر الشعبيّ : الرجل يرسل كلبه فيأكل منه ، أنأكل منه ؟ لا ، لم يتعلم الذي علمته .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إذا أكل الكلب من صيد فاضربه ، فإنه ليس بمعلّم .

حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : إذا أكل الكلب فهو ميتة ، فلا تأكله .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير وسيار ، عن الشعبيّ ومغيرة ، عن إبراهيم أنهم قالوا في الكلب : إذا أكل من صيده فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد ، فما وجدته ميتا فدعه ، فإنه مما لم يمسك عليك صيدا ، إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك ، وإن كان قد علم .

حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بنحوه .

وقال آخرون نحو هذه المقالة ، غير أنهم حدّوا لمعرفة الكَلاّب بأن كلبه قد قبل التعليم ، وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرّات ثلاثا ، وهذا قول محكيّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن .

وقال آخرون ممن قال هذه المقالة : لا حدّ لعلم الكلاّب بذلك من كلبه أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم قالوا : فإذا فعل ذلك فقد صار معلّما حلالاً صيده . وهذا قول بعض المتأخرين .

وفرّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة ، وتعليم الكلب وضاري السباع الجارحة ، فقال : جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد . قالوا : وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلي ، ويجب إذا دُعي ، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذه . قالوا : وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وحجاج ، عن عطاء ، قال : لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أسباط ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، الشبيانيّ ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يعُد وإن تعليم الطير : أن يرجع إلى صاحبه ، وليس يضرب فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكُلْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال : ليس البازي والصقر كالكلب ، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك ، فكُلْ منه .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو زبيد ، عن مطرّف ، عن حماد ، قال إبراهيم : كُل صيد البازي وإن أكل منه .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، وجابر عن الشعبيّ ، قالا : كل من صيد البازي وإن أكل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : إذا أكل البازي والصقر من الصيد ، فكل ، فإنه لا يعُلّم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : لا بأس بما أكل منه البازي .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، أنه قال في البازي : إذا أكل منه فكُلْ .

وقال آخرون منهم : سواء تعليم الطير والبهائم والسباع ، لا يكون نوع من ذلك معلّما إلا بما يكون به سائر الأنواع معلما . وقالوا : لا يحلّ أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه ، كائنة ما كانت تلك الجارحة بهيمة أو طائرا . قالوا : لأن من شروط تعليمها . الذي يحلّ به صيدها ، أن تمسك ما صادت على صاحبها فلا تأكل منه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا محمد بن سالم ، عن عامر ، قال : قال عليّ : إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن جعفر ، عن شعبة ، عن مجاهد بن سعيد ، عن الشعبي ، قال : إذا أكل البازي منه فلا تأكل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا أكل البازي فلا تأكل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع عن عمرو بن الوليد السهميّ ، قال : سمعت عكرمة ، قال : إذا أكل البازي فلا تأكل .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الكلب والبازي كلّه واحد ، لا تأكل ما أكل منه من الصيد إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه . قال : قلت لعطاء : البازي ينتف الريش ؟ قال : فما أدركته ولم يأكل ، فكُلْ . قال ذلك غير مرّة .

وقال آخرون : تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد ، قالوا : وتعليمه الذي يحلّ به صيده أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشْلِي ويأخذ الصيد ، ويدعوه صاحبه فيجيب ، أو لا يفرّ منه إذا أخذه . قالوا : فإذا فعل الجارح ذلك كان معلما داخلاً في المعنى الذي قال الله : وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعْلّمونهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قالوا : وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد ، قالوا : وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه وهو يؤدّب بأكله ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد أو سعد ، عن سلمان ، قال : إذا أرسلت كلبك على صيد ، وذكرت اسم الله فأكل ثلثيه وبقي ثلثه ، فكل ما بقي .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا حميد ، قال : ثني القاسم بن ربيعة ، عمن حدّثه ، عن سلمان وبكر بن عبد الله ، عمن حدثه ، عن سلمان : أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه ، قال : كُلْ وإن أكل ثلثيه إذا أرسلته وذكرت اسم الله وكان معلّما .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : كل وإن أكل ثلثيه يعني : الصيد إذا أكل ثلثيه يعني : الصيد إذا أكل منه الكلب .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان ، نحوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وعبد العزيز بن عبد الصمد ، عن شعبة ( ح ) وحدثنا هناد قال : حدثنا عبدة جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فأكل ثلثه فكُلْ .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، عن سلمان ، نحوه .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم ، أن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي الفرات ، عن محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلم أو بازك ، فسمتَ ، فأكَل نصفه أو ثلثيه ، فكل بقيته .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي ، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كُلْ وإن لم يبق منه إلا حذْية ، يعني بَضْعة .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنى عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، قال : سمعت بكير بن الأشج يحدّث عن سعد ، قال : كل وإن أكل ثلثيه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، قال : سمعت بكير بن الأشجّ ، عن سعيد بن المسيب قال شعبة ، قلت : سمعت من سعيد ؟ قال : لا قال : كل وإن أكل ثلثيه . قال : ثم إن شعبة قال في حديثه عن سعد ، قال : كل وإن أكل نصفه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنى عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي هريرة ، قال : إذا أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكُلْ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن إبي هريرة ، بنحوه .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن أبي هريرة ، نحوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني سالم بن نوح العطار ، عن عمر ، يعني ابن عامر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم فأخذ فقلت ، فكُلْ وإن أكل ثلثيه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عبد الله ( ح ) وحدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، بنحوه .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب أن نافعا حدثهم : أن عبد الله بن عمر كان لا يرَى بأكل الصيد بأسا ، إذا قتله الكلب أكل منه .

حدثني يونس به مرة أخرى ، فقال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، أن نافعا حدثهم عن عبد الله بن عمر ، فذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن أبي ذئب ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأسا بما أكل الكلب الضاري .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن حميد بن عبد الله ، عن سعد ، قال : قلت : لنا كلاب ضوار يأكلن ويبقين ؟ قال : كل وإن لم يبق إلا بَضْعة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشجّ ، عن حميد ، قال : سألت سعدا ، فذكر نحوه .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله : تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ أن التعليم الذي ذكره الله في هذه الاَية للجوارح ، إنما هو أن يعلم الرجل جارحه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد ، وطلبه إياه أغري ، أو إمساكه عليه إذا أَخذ من غير أن يأكل منه شيئا ، وألا يفرّ منه إذا أراده ، وأن يجيبه إذا دعاه ، فذلك هو تعليم جميع الجوارح طيرها وبهائمها . وإن أكل من الصيد جارحة صائد ، فجارحه حينئذٍ غير معلم . فإن أدرك صاحبه حيّا فذكّاه حلّ له أكله ، وإن أدركه ميتا لم يحلّ له ، لأنه مما أكله السبع الذي حرّمه الله تعالى بقوله : وَما أكَلَ السّبُع ولم يدرك ذكاته .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم بن سليمان الأحول ، عن الشعبيّ ، عن عديّ بن حاتم ، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصيد ، فقال : «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ فاذْكُرِ اسْمَ اللّه عَلَيْهِ ، فإنْ أدْرَكْتَهُ وقد قَتَلَ وأَكَلَ مِنْهُ ، فلا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئا ، فإنّما أمْسَكَ على نَفْسِهِ » .

حدثنا أبو كريب ، وأبو هشام الرفاعي ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن بيان بن بشر ، عن عامر ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب ؟ فقال : «إذَا أرْسَلْتَ كِلابَكَ المُعَلّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْها ، فَكُلْ ما أمْسَكْنَ عَلَيْكَ وَإنْ قَتَلْنَ ، إلاّ أنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ ، فإنْ أكَلَ تَأْكُلْ ، فإنّي أخافُ أنْ يَكُونَ إنّمَا حَبَسَهُ على نَفْسِهِ » .

فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما :

حدثك به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن موسى ، قال : حدثنا محمد بن دينار ، عن أبي إياس ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا أرْسَلَ الرّجُلُ كَلْبَهُ على الصّيْدِ فَأدْرَكَهُ وَقَدْ أكَلَ مِنْهُ ، فَليْأكُلْ ما بَقِيَ » .

قيل : هذا خبر في إسناده نظر ، فإن سعيدا غير معلوم له سماع من سلمان ، والثقات من أهل الاَثار يقفون هذا الكلام على سلمان ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم ، كانت الجماعة الأثبات أحقّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم . وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرت من أنه إذا أكل من الصيد فغير معلّم ، فكذلك حكم كلّ جارحة في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلّم ، لا يحلّ له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته .

القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .

يعني بقوله : فَكُلُوا مِما أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ : فكلوا أيها الناس مما أمسكتْ عليكم جوارحكم .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله ، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه ، أدركت ذكاته فذُكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح ، بجرحها إياه أو بغير جرح . وهذا قول الذين قالوا : تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلّم الاستشلاء على الصيد وطلبه إذا أُشليت عليه وأخذَه ، وترك الهرب من صاحبها دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته . وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفا .

وقال آخرون : بل ذلك على الخصوص دون العموم ، قالوا : ومعناه : فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه . قالوا : فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا ، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه على أنفسها لا علينا ، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلّمة عليه بقوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ دون ما أمسكته على أنفسها ، وهذا قول من قال : تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها ، أن تَسْتَشْلي للصيد إذا أُشليت فتطلبه وتأخذه ، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا ، ولا تفرّ من صاحبها وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة ، ونذكر منهم جماعة آخرين في هذا الموضع .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يقول : كلوا مما قلتن . قال عليّ : وكان ابن عباس يقول : إن قتل وأكل فلا تأكل ، وإن أمسك فأدركته حيّا فذَكّه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن أكل المعلم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَكُلوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه ، فهو حلّ ، فإن أكل منه ، فيقال : إنما أمسك على نفسه ، فلا تأكل منه شيئا ، إنه ليس بمعلّم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَسْئَلُونَكَ ماذَا أُحلّ لَهُمْ إلى قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ قال : إذا أرسلت كلبك المعلم أو طيرك أو سهمك ، فذكرت اسم الله ، فأخذ أو قتل ، فكل .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله فأمسك أو قتل فهو حلال ، فإذا أكل منه فلا تأكله ، فإنما أمسكه على نفسه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبيّ ، عن عديّ ، قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال : قلت يا رسول الله إن أرضى أرض صيد ؟ قال : «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمّيْتَ فكُلْ مما أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبَكَ ، وإنْ قَتَلَ ، فإنْ أَكَلَ فلا تَأْكُلْ فإنّه إنّما أمْسَكَ على نَفْسِهِ » .

وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره .

فإن قال قائل : وما وجه دخول «مِن » في قوله : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، وقد أحلّ الله لنا صيد جوارحنا الحلال ، «ومن » إنما تدخل في الكلال مبعضة لما دخلت فيه ؟ قيل : قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية ، فقال بعض نحويي البصرة حين دخلت «من » في هذا الموضع لغير معنى ، كما تدخله العرب في قولهم : كان من مطر ، وكان من حديث . قال : ومن ذلك قوله : وَيُكفَرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ ، وقوله : ويُنزّلُ مِنَ السّماء مِنَ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ . قال : وهو فيما فسر : وينزل من السماء جبالاً فيها برد . قال : وقال بعضهم : وُينزّل مِنَ السّماء مِنْ جِبالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ أي من السماء من برد ، بجعل الجبال من برد في السماء ، وبجعل الإنزال منها . وكان غيره من أهل العربية يُنكر ذلك ويقول : لم تدخل «من » إلا لمعنى مفهوم لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به ، وذلك أنها دالة على التبعيض . وكان يقول : معنى قولهم : «قد كان من مطر ، وكان من حديث » : هل كان من مَطَرٍ مَطَر عندكم ، وهل من حَدِيثٍ حُدّث عندكم . ويقول : معنى وَيُكَفّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ أي ويكفر عنكم من سيئاتكم ما يشار ويريد ، وفي قوله : ويُنَزّلُ مِنَ السّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فيجيز حذف «مِنْ » من مِنْ بَرَدٍ ولا يجز حذفها من «الجبال » ، ويتأوّل معنى ذلك : وينزّل من السماء أمثال جبال بردَ ، ثم أدخلت «من » في البرَد ، لأن البرَد مفسر عنده عن الأمثال : أعني : أمثال الجبال ، وقد أقيمت الجبال مقام الأمثال ، والجبال وهي جبال برَد ، فلا يجيز حذف «من » من الجبال ، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد أمثال جبال برد ، وأجاز حذف «مِنْ » من «البرد » ، لأن «البرد » مفسر عن الأمثال ، كما تقول : عندي رطلان زيتا ، وعندي رطلان من زيت ، وليس عندك الرطل وإنما عندك المقدار ، ف«مِنْ » تدخل في المفسر وتخرج منه . وكذلك عند قائل هذا القول : من السماء ، من أمثال جبال ، وليس بجبال . وقال : وإن كان أنزل من جبال في السماء من برد جبالاً ، ثم حذف «الجبال » الثانية و«الجبال » الأوّل في السماء جاز ، تقول : أكلت من الطعام ، تريد : أكلت من الطعام طعاما ، ثم تحذف الطعام ولا تسقط «من » .

والصواب من القول في ذلك ، أن «مِنْ » لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة لدلالة ما يظهر من الكلام عليها ، فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها ، فذلك قد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام . ومعنى دخولها في قوله : فَكُلُوا ممّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ للتبعيض إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحلّ الله لهم لحومه وحرم عليهم فرثه ودمه ، فقال جلّ ثناؤه : فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جوارحكم الطيبات التي أحللت لكم من لحومها دون ما حرّمت عليكم من خبائثه من الفَرْث والدم وما أشبه ذلك مما لم أطيبه لكم ، فذلك معنى دخول «من » في ذلك .

وأما قوله : وَيُكَفّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وأما دخولها في قوله : ويُنزّلُ مِنَ السّماءِ مِنْ جِبالٍ فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : واذْكُرُوا اسْمَ الله على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد . كما :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : واذكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله ، وإن نسيت فلاحرج .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ قال : إذا أرسلته فسمّ عليه حين ترسله على الصيد .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ .

يعني جلّ ثناؤه : واتقوا الله أيها الناس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه ، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها ، أو تَطعَموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحد الله من خلقه ، أو ذبحوه ، فإن الله قد حرّم ذلك عليكم فاجتنبوه . ثم خوّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره فقال : اعلموا أن الله سريع حسابه لمن حاسبه على نعمته عليه منكم وشكر الشاكر منكم ربه ، على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى ، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم فيحيط به ، لا يخفى عليه منه شيء ، فيجازي المطيع منك بطاعته والعاصي بمعصيته ، وقد بين لكم جزاء الفريقين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

{ يسألونك ماذا أحل لهم } لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة ، وقد سبق الكلام في { ماذا } وإنما قال لهم ولم يقل لنا على الحكاية ، لأن { يسألونك } بلفظ الغيبة وكلا الوجهين سائغ في أمثاله ، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم . { قل أحل لكم الطيبات } ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ومن مفهومه حرم مستخبثات العرب ، أو ما لم يدل نص ولا قياس على حرمته . { وما علمتم من الجوارح } عطف على { الطيبات } إن جعلت { ما } موصولة على تقدير وصيد ما علمتم ، وجملة شرطية إن جعلت شرطا وجوابها { فكلوا } و{ الجوارح } كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع والطير { مكلبين } معلمين إياه الصيد ، والمكلب مؤدب الجوارح ومضر بها بالصيد . مشتق من الكلب ، لأن التأديب يكون أكثر فيه وآثر ، أو لأن كل سبع يسمى كلبا لقوله عليه الصلاة والسلام " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم .

{ تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف . { مما علمكم الله } من الحيل وطرق التأديب ، فإن العلم بها إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه وتعالى ، أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه ، وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه . { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهو ما لم تأكل منه لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم " وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه " . وإليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم : لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر ، وقال آخرون لا يشترط مطلقا . { واذكروا اسم الله عليه } الضمير لما علمتم والمعنى : سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته . { واتقوا الله } في محرماته . { إن الله سريع الحساب } فيؤاخذكم بما جل ودق .