{ قَالُوا } لنبيهم صالح مكذبين ومعارضين : { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } زعموا -قبحهم الله- أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سببا لمنع بعض مطالبهم الدنيوية ، فقال لهم صالح : { طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي : ما أصابكم إلا بذنوبكم ، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } بالسراء والضراء والخير والشر لينظر هل تقلعون وتتوبون أم لا ؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم وما قابلوه به .
وكذلك كان قوم صالح يقولون . ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار . ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم ، ويتوقعون الشر من ورائهم :
( قالوا : اطيرنا بك وبمن معك ) .
والتطير . التشاؤم . مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام ، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان . فقد كان الواحد منهم إذا هم بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا . فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر . وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر !
وما تدري الطير الغيب ، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول . ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه . فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد ، ولا تخضع لعقل ، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين .
وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله ، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه ، لأنهم - بزعمهم - قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين ! - هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه . . نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13 ، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم ، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد . . . إلى آخر هذه الخرافات الساذجة . ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة . وهي جوعتها إلى الإيمان ، وعدم استغنائها عنه ، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان ؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام ، لأنه أكبر من الطاقة البشرية ، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان ، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض ، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات !
فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة ، الضالة في تيه الوهم والخرافة ، ردهم صالح إلى نور اليقين ، وإلى حقيقته الواضحة ، البعيدة عن الضباب والظلام :
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله . والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور ، وبين لهم الطريق المستنير . فمن اتبع سنة الله ، وسار على هداه ، فهناك الخير ، بدون حاجة إلى زجر الطير . ومن انحرف عن السنة ، وحاد عن السواء ، فهناك الشر ، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير .
تفتنون بنعمة الله ، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر . فاليقظة وتدبر السنن ، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية . لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء .
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور . وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم . وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله ، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة . . وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس . وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله ، وبخالق الكون ومدبره ، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم .
{ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } أي : ما رأينا على وجهك ووجوه مَنْ اتبعك خيرا . وذلك أنهم - لشقائهم - كان لا يصيب أحدًا منهم سوءٌ إلا قال : هذا من قبل صالح وأصحابه .
قال مجاهد : تشاءموا بهم . وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأعراف : 131 ] . وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [ النساء : 78 ] أي : بقضاء الله وقدره{[22080]} . وقال مخبرًا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [ يس : 18 ، 19 ] . وقال هؤلاء : { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي : الله يجازيكم على ذلك { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } قال قتادة : تبتلون بالطاعة والمعصية .
والظاهر أن المراد بقوله : { تُفْتَنُونَ } أي : تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَن مّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لرسولها صالح اطّيّرنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاءمنا بك وبمن معك من أتباعنا ، وزجرنا الطير بأنا سيصيبنا بك وبهم المكاره والمصائب ، فأجابهم صالح فقال لهم طائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه ، لا يدري أيّ ذلك كائن ، أما تظنون من المصائب أو المكاره ، أم ما لا ترجونه من العافية والرجاء والمحاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله قالَ طائرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ يقول : مصائبكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله طائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ علمكم عند الله .
وقوله : بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ يقول : بل أنتم قوم تختبرون ، يختبركم ربكم إذ أرسلني إليكم ، أتطيعونه ، فتعملون بما أمركم به ، فيجزيكم الجزيل من ثوابه ، أم تعصونه ، فتعملون بخلافه ، فيحلّ بكم عقابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.