26- قل - يا أيها النبي - ضارعاً إلى الله مقراً بجبروته : اللهم أنت - وحدك - مالك التصرف في الأمر كله ، تمنح من تشاء من الحكم والسلطان ، وتنزعه ممن تشاء ، وتهب العزة من تريد من عبادك بتوفيقه إلى الأخذ بأسبابها ، وتضرب الذل والهوان على من تشاء ، فأنت - وحدك - تملك الخير ، لا يعجزك شيء عن تنفيذ مرادك ، وما تقتضيه حكمتك في نظام خلقك .
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي : أنت الملك المالك لجميع الممالك ، فصفة الملك المطلق لك ، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك ، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها ، فقال : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد ، وقد فعل ولله الحمد ، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى ، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله ، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء ، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر ، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح ، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم ، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع ، قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور ، وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء ، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم ، ثم قال تعالى : { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك .
بعدئذ يلقن رسول الله [ ص ] وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقررا حقيقة الألوهية الواحدة ، وحقيقة القوامة الواحدة ، في حياة البشر ، وفي تدبير الكون . فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه :
( قل : اللهم مالك الملك : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء . بيدك الخير . إنك على كل شيء قدير . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل . وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . وترزق من تشاء بغير حساب )
نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس ؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله ؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس ؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف !
( قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو ( مالك الملك ) بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه . يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته ؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات ؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : ( بيدك الخير ) . . ( إنك على كل شيء قدير ) . .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .