{ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } أي : إن إرادة الله غالبة ، فإنه إذا أراد أن يغويكم ، لردكم الحق ، فلو حرصت غاية مجهودي ، ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئا ، { هُوَ رَبُّكُمْ } يفعل بكم ما يشاء ، ويحكم فيكم بما يريد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم .
( ولا ينفعكم نصحي - إن أردت أن أنصح لكم - إن كان الله يريد أن يغويكم ، هو ربكم وإليه ترجعون ) . .
فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ، فإن هذه السنة ستمضي فيكم ، مهما بذلت لكم من النصح . لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح ، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا ،
وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم ، فأنتم دائما في قبضته ، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله ؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا ينفعكم نصحي} فيما أحذركم من العذاب، {إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} يعني يضلكم عن الهدى ف {هو ربكم} ليس له شريك، {وإليه ترجعون} بعد الموت، فيجزيكم بأعمالكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي" يقول: ولا ينفعكم تحذيري عقوبته ونزول سطوته بكم على كفركم به، "إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ" في تحذيري إياكم ذلك، لأن نصحي لا ينفعكم لأنكم لا تقبلونه. "إِنْ كَان اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم"، يقول: إن كان الله يريد أن يهلككم بعذابه. "هُوَ رَبّكُمْ وَإلَيْهِ تُرْجَعونَ" يقول: وإليه تردّون بعد الهلاك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والنصح اخلاص العمل من الفساد على الاجتهاد فيه، والنصح نقيض الغش. وكان نصح نوح لقومه إعلامهم موضع الغي ليتقوه، وموضع الرشد ليتبعوه. وإنما شرط النصح بالإرادة -في قوله "إن أردت أن أنصح "مع وقوع هذا النصح- استظهارا في الحجة: لأنهم ذهبوا إلى أنه ليس بنصح، فقال: لو كان نصحا ما نفع من لا يقبله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: فما معنى قوله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالاً، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به: سمي إرشاداً وهداية. وقيل: {أَن يُغْوِيَكُمْ}: أن يهلككم من غوى الفصيل غوي، إذا بشم فهلك، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك... والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه، والمنصح: الإبرة، والمخيط يقال له منصح ونصاح...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
النُصحُ: كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه، ونقيضُه الغشُّ وقيل: هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} النصح: تحري الصلاح والخير للمنصوح له والإخلاص فيه قولا وعملا من قولهم ناصح العسل لخالصه المصفى منه، ونصح له أفصح من نصحه، والإغواء الإيقاع في الغي وهو الفساد الحسي والمعنوي، والمعنى أن نصحي لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتي له فيما أدعوكم إليه، وإنما يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى، وقد مضت سنته تعالى بما عرف بالتجارب أن نفع النصح له شرطان أو طرفان هما الفاعل للنصح والقابل له، وإنما يقبله المستعد للرشد، ويرفضه من غلب عليه الغي والفساد، بمقارفة أسبابه من الغرور بالغنى والجاه والكبر، وهو غمط الحق واحتقار المتكبر لمن يزدري من الناس وتعصبه لما كان عليه الآباء والأجداد، واتباع الهوى وحب الشهوات المانعة من طاعة الله، فمعنى إرادة الله تعالى لإغوائهم اقتضاء سنته فيهم أن يكونوا من الغاوين، لا خلقه للغواية فيهم جزافا أُنُفا [بضمتين] أي ابتداء بغير عمل ولا كسب منهم لأسبابها، فإن هذا مضاد لمذهب أهل السنة في إثبات خلق الأشياء مقدرة بأقدارها، ترتبط أسبابها بمسبباتها.
وفسر ابن جرير "يغويكم "بيهلككم بعذابه، وقد ورد الغي بهذا المعنى ومنه قوله تعالى: {فسوف يلقون غيا} [مريم: 59] وحكي عن طيئ قولهم: أصبح فلان غاويا، إذا أصبح مريضا. وأصل الغي فساد الجهاز الهضمي من كثرة الغذاء أو سوئه. تقول العرب: غوي الفصيل إذا فسد جوفه وبشم من كثرة اللبن، ثم توسعوا فيه فاستعمل في الفساد المعنوي من الانهماك في الجهل وكل ما ينافي الرشد. والقرائن هي التي ترجح بعض المعاني على بعض، وموافقة سنن الله وأقداره شرط في الكل...
{هو ربكم وإليه ترجعون} أي هو مالك أموركم ومدبرها ومسيرها على سننه المطردة في الدنيا، ولكل شيء عنده قدر، ولكل قدر أجل، وإليه ترجعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها لا يظلم أحدا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولا ينفعكم نصحي -إن أردت أن أنصح لكم- إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون).. فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم، فإن هذه السنة ستمضي فيكم، مهما بذلت لكم من النصح. لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالنصح هنا هو ما سمّاه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمّى نصحاً، لأن الجدال يكون للخير والشر كما تقدم. وجملة الشرط في قوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} هي المقصود من الكلام، فجوابها في معنى قوله: {لا ينفعكم نصحي} ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتماماً بذلك فجعل معطوفاً على ما قبله وأتي بالشرط قيداً له...
والتعليق بالشرط في قوله: {إن أردت أن أنصح لكم} مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك. وأشار بقوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح عليه السلام سببه خذلان الله إيّاهم ولولاه لنفعهم نصحه، ولكن نوحاً عليه السلام لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر...
وجملة "هو ربكم "ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه وُدّاً، وسوَاعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً. والتقديم في {وإليه ترجعون} للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر، لأنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً بله أن يزعموا أنهم يُحْضرون إلى الله وإلى غيره...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإليه ترجعون} إنذار لهم فالمرجع إليه وأنه لمحاسبكم على كل ما صنعتم محاسبة العليم الخبير السميع البصير، وقوله تعالى: {وإليه ترجعون} تدل بتقديم الجار والمجرور على أن المرجع إليه وحده، وإن في هذا القصص الحكيم لأمرين: الأمر الأول: التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان أنه لاقى النبيون مما لاقى هو، والعاقبة كانت لهم وحادهم المشركون بما حادوا به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك عبء يحتمل في سبيل أداء الرسالة الإلهية إلى خلق الله تعالى، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. الأمر الثاني: إثبات الإعجاز وهو أنه أتى بهذه الأخبار الصادقة عن النبيين السابقين من غير أن يتعلم على معلم، ومن غير أن يقرأ في كتاب {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون 48} (العنكبوت). ولذلك كان هذا القصص الحق مع الأسلوب المعجز من دلائل الإعجاز...