البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا يَنفَعُكُمۡ نُصۡحِيٓ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغۡوِيَكُمۡۚ هُوَ رَبُّكُمۡ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (34)

ولما قالوا : قد جادلتنا ، وطلبوا تعجيل العذاب ، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال : ولا ينفعكم نصحي .

وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : نصحي بفتح النون ، وهو مصدر .

وقراءة الجماعة بضمها ، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر ، واحتمل أن يكون اسماً .

وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله : ولا ينفعكم نصحي ، وهو دليل على جواب الشرط تقديره : إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، والشرط الثاني : اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي ، تقديره : إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي .

وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول ، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً ، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم ، فلا ينفعكم نصحي ، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إنْ كان الله يريد أن يغويكم .

فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي .

ونظيره : { وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها } وقال الزمخشري : قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : لا ينفعكم نصحي ، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني .

وقال ابن عطية : وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك .

والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي ، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى .

وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال : جواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع .

والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله : غوى الرجل يغوي وهو الضلال .

وفيه إسناد الإغواء إلى الله ، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون : إن الضلال هو من العبد .

وقال الزمخشري : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء ، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى .

وهو على طريقة الاعتزال ، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف ، فلا ينبغي أن يقال : إذا عرف الله كما قال الزمخشري ، وللمعتزلي أن يقول : لا يتعين أن تكون إن شرطية ، بل هي نافية والمعنى : ما كان الله يريد أن يغويكم ، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى ، ويكون قوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح ، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم ، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر .

وقيل : معنى يغويكم يهلككم ، والغوي المرض والهلاك .

وفي لغة طيء : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً ، والغوي بضم الفصيل وقاله : يعقوب في الإصلاح .

وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله : الفراء ، وحكاه الطبري يقال منه : غوى يغوي .

وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ، أو لما يهلك بعد .

قال ابن الأنباري : وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه ، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب ، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره .

وإذا كان معنى يغويكم يهلككم ، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني ، بل الحجة من غير هذا ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي ؟ وفي قوله : هو ربكم ، تنبيه على المعرفة بالخالق ، وأنه الناظر في مصالحكم ، إن شاء أن يغويكم ، وإن شاء أن يهديكم .

وفي قوله : وإليه ترجعون ، وعيد وتخويف .