ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي } إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ } قد تقدَّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل ، وقال الزمخشريُّ هنا : " إنْ كانَ اللهُ " جزاؤه ما دل عليه قوله : " لا يَنْفعُكم نُصْحِي " .
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه ؛ فوصل بشرطٍ ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله : " إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني " .
وقال أبو البقاء{[18765]} : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو : " إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ " فقولك : " إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك " جوابُ " إنْ أتَيْتَني " جميعُ ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى ، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام ، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي } [ الأحزاب : 50 ] .
قال شهابُ الدِّين{[18766]} : أما قوله : " إنْ وهبَتْ . . . إنْ أرادَ " فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة ، لمَّا وهبت أراد نكاحها ، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه .
وقال ابنُ عطيَّة{[18767]} هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين ، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب " نُصْحِي " وتعلُّقُ الآخر ب " لا يَنْفَعُ " .
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله : " ولا يَنْفَعُكُمْ " لأنَّهُ عقبهُ ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي . وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم ، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي .
وقرأ الجمهور : " نُصْحي " بضم النونِ ، وهو يحتملُ وجهين :
أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ .
وقرأ عيسى{[18768]} بن عمر " نَصْحي " بفتح النُّون ، وهو مصدرٌ فقط .
وفي غضون كلام الزمخشري : " إذا عرف اللهُ " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون " إنْ " شرطيةً بل هي نافيةٌ ، والمعنى : " ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ " .
قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة .
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه ؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .
قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا مسلمٌ ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه ؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم ، بل فوَّضَ الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة ، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم .
الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم ؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم ؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدةٌ ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا ؛ فقد جعلتنا مغلُوبين ، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة ؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام - ؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة ، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات :
الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله ؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون . ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه ؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي ، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك .
الثاني : قال الحسنُ : معنى " يُغْويكُم " أي : يُعَذِّبكم{[18769]} والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ ؛ فأمنتم في ذلك الوقت ؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ .
الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] ، أي : خيبة من خير الآخرة ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
. . . *** ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا{[18770]}
الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوَّضه إلى نفسه ؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه ، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثَم قال : { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.