اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا يَنفَعُكُمۡ نُصۡحِيٓ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغۡوِيَكُمۡۚ هُوَ رَبُّكُمۡ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (34)

ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي } إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ } قد تقدَّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل ، وقال الزمخشريُّ هنا : " إنْ كانَ اللهُ " جزاؤه ما دل عليه قوله : " لا يَنْفعُكم نُصْحِي " .

وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه ؛ فوصل بشرطٍ ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله : " إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني " .

وقال أبو البقاء{[18765]} : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو : " إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ " فقولك : " إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك " جوابُ " إنْ أتَيْتَني " جميعُ ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى ، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام ، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي } [ الأحزاب : 50 ] .

قال شهابُ الدِّين{[18766]} : أما قوله : " إنْ وهبَتْ . . . إنْ أرادَ " فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة ، لمَّا وهبت أراد نكاحها ، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه .

وقال ابنُ عطيَّة{[18767]} هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين ، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب " نُصْحِي " وتعلُّقُ الآخر ب " لا يَنْفَعُ " .

وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله : " ولا يَنْفَعُكُمْ " لأنَّهُ عقبهُ ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي . وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم ، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي .

وقرأ الجمهور : " نُصْحي " بضم النونِ ، وهو يحتملُ وجهين :

أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ .

وقرأ عيسى{[18768]} بن عمر " نَصْحي " بفتح النُّون ، وهو مصدرٌ فقط .

وفي غضون كلام الزمخشري : " إذا عرف اللهُ " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون " إنْ " شرطيةً بل هي نافيةٌ ، والمعنى : " ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ " .

قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة .

فصل

دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه ؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .

قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا مسلمٌ ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه ؟

بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم ، بل فوَّضَ الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة ، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم .

الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم ؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم ؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدةٌ ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا ؛ فقد جعلتنا مغلُوبين ، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة ؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام - ؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة ، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات :

الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله ؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون . ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه ؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي ، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك .

الثاني : قال الحسنُ : معنى " يُغْويكُم " أي : يُعَذِّبكم{[18769]} والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ ؛ فأمنتم في ذلك الوقت ؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ .

الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] ، أي : خيبة من خير الآخرة ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

. . . *** ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا{[18770]}

الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوَّضه إلى نفسه ؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه ، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثَم قال : { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد .


[18765]:ينظر: الإملاء 2/38.
[18766]:ينظر: الدر المصون 4/96.
[18767]:ينظر: المحرر الوجيز 3/167.
[18768]:ينظر: البحر المحيط 5/219، والدر المصون 4/6.
[18769]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/175).
[18770]:عجز بيت للمرقش وصدره: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** ... ينظر: الخزانة 1/339، 11/453 واللسان (غوى) والتفسير الكبير للرازي 17/219.