64- واستخفَّ واستنزل بدعائك إلى معصية الله من استعطت منهم ، وأفرغ جهدك في جميع أنواع الإغراء ، وشاركهم في كسب الأموال من الحرام وصرفها في الحرام ، وتكفير الأولاد وإغرائهم على الإفساد ، وعِدْهم المواعيد الباطلة كشفاعة آلهتهم ، والكرامة عند الله بأنسابهم ، وما يعد الشيطان أتباعه إلا بالتغرير والتمويه .
ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية .
{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله فهو من خيل الشيطان ورجله .
والمقصود أن الله ابتلى العباد بهذا العدو المبين الداعي لهم إلى معصية الله بأقواله وأفعاله .
{ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ } وذلك شامل لكل معصية تعلقت بأموالهم وأولادهم من منع الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة ، وعدم تأديب الأولاد وتربيتهم على الخير وترك الشر وأخذ الأموال بغير حقها أو وضعها بغير حقها أو استعمال المكاسب الردية .
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع ، وأنه إذا لم يسم الله في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث .
{ وَعِدْهُمْ } الوعود{[475]} المزخرفة التي لا حقيقة لها ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } أي : باطلا مضمحلا كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الأجر لأنهم يظنون أنهم على الحق ، وقال تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا }
( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) .
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال !
( وشاركهم في الأموال والأولاد ) . .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية المخادعة : ( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
القول في تأويل قوله تعالى { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } .
يقول تعالى ذكره بقوله وَاسْتَفزِزْ واستخفف واستجهل ، من قولهم : استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوتِكَ . اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله وَاسْتَفْزِز مَ . نِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوتِك فقال بعضهم : عنى به : صوت الغناء واللعب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله وَاسْتَفْزِز مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال : باللهو والغناء .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر ، عن مجاهد ، في قوله : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال : اللعب واللهو .
وقال آخرون : عنى به واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال : صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال : بدعائك .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس : واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك ، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت ، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته ، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله ، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ .
وقوله : وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلكَ يقول : وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك ، والصرف عن طاعتي . يقال منه : أجلب فلان على فلان إجلابا : إذا صاح عليه . والجَلَبة : الصوت ، وربما قيل : ما هذا الجَلَب ، كما يقال : الغَلَبة والغَلَب ، والشّفَقَة والشّفَق . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل ، ذكر من قال ذلك :
حدثني سلم بن جنادة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد ، في قوله وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ قال : كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال : إن له خيلاً ورجلاً من الجنّ والإنس ، وهم الذين يطيعونه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ قال الرجال : المشاة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال : خيله : كل راكب في معصية الله ورجله : كل راجل في معصية الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال : ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس . والرجْل : جمع راجل ، كما التجْر : جمع تاجر ، والصّحْب : جمع صاحب .
وأما قوله : وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ فقال بعضهم : هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ التي أصابوها من غير حلها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ قال : ما أكل من مال بغير طاعة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رَباح ، قال : الشرك في أموال الربا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : قد والله شاركهم في أموالهم ، وأعطاهم الله أموالاً فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه ، وهو قول قتادة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال الحسن وَشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ مرهم أن يكسبوها من خبيث ، وينفقوها في حرام .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : كلّ مال في معصية الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : مشاركته إياهم في الأموال والأولاد ، ما زَيّن لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وَشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ كلّ ما أنفقوا في غير حقه .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : الأموال : ما كانوا يحرّمون من أنعامهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى ، عن عمران بن سليمان . عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ فإنه قد فعل ذلك أما في الأموال ، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما .
قال أبو جعفر : الصواب : حاميا .
وقال آخرون : بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لاَلهتهم . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ يعني ما كانوا يذبحون لاَلهتهم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام ، أو ذبح للاَلهة ، أو تسييب ، أو بحر للشيطان ، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه ، وذلك أن الله قال وَشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه ، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس ، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض .
وقوله : والأوْلادِ اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم ، فقال بعضهم : شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : أولاد الزنا .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد وشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ والأوْلادِ قال : أولاد الزنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَشارِكْهُم فِي الأمْوَالِ والأولادِ قال : أولاد الزنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أولاد الزنا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول وَشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ والأولادِ قال : أولاد الزنا ، يعني بذلك أهل الشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَشارِكْهُم فِي الأمْوَالِ والأولادِ قال : الأولاد : أولاد الزنا .
وقال آخرون : عُني بذلك : وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأولادِ قال : ما قتلوا من أولادهم ، وأتوا فيهم الحرام .
وقال آخرون : بل عني بذلك : صبغهم إياهم في الكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأولاد قال : قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم ، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَال والأولادِ قال : قد فعل ذلك ، أما في الأولاد فإنهم هوّدوهم ونصّروهم ومجّسوهم .
وقال آخرون : بل عني بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن عمران بن سليمان ، عن أبي صالح عن ابن عباس وَشارِكْهُم فِي الأمْوَالِ والأولادِ قال : مشاركته إياهم في الأولاد ، سموا عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : كلّ ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو قتله ووأده ، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بها بفعله به أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك المولود له أو منه ، لأن الله لم يخصص بقوله وَشارِكْهُم في الأمْوَالِ والأولادِ معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى ، فكلّ ما عصى الله فيه أو به ، وأطيع به الشيطان أو فيه ، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه .
وقوله : وَعِدْهُم وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا يقول تعالى ذكره لإبليس : وعد أتباعك من ذرّية آدم ، النصرة على من أرادهم بسوء . يقول الله : وَما يَعِدُهُمْ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نزل بهم شيئا ، فهم من عداته في باطل وخديعة ، كما قال لهم عدوّ الله حين حصحص الحقّ إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعَدَ الحَقّ وَوَعَدتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَما كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكْمْ فاسْتَجَبَتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ .
الاستفزاز : طلب الفَزّ ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل . والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء ، أي استخفهم وأزعجهم .
والصوت : يطلق على الكلام كثيراً ، لأن الكلام صوت من الفم . واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس . ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله : { وأجلب عليهم بخيلك } كما سيأتي .
والإجْلاب : جَمْع الجيش وسوقه ، مشتق من الجَلَبة بفتحتين ، وهي الصياح ، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم .
والخيل : اسم جمع الفَرس . والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « يا خيلَ الله اركبي » وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته . .
ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } من جملة هذا التمثيل .
والرّجْل : اسم جمع الرجال كصحب . وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال ، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً . قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني :
وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة *** تتاح لحبات القلوب نبالها
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها
والمعنى : أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم . فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش ، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة .
وقرأ حفص عن عاصم { ورجلك } بكسر الجيم ، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم ، وهو الواحد من الرجال . والمراد الجنس . والمعنى : بخيلك ورجالك ، أي الفرسان والمشاة .
والباء في { بخيلك } إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد . ومجرورها مفعول في المعنى لفعل { أجلب } مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ وإما لتضمين فعل { أجلب } معنى ( اغزُهم ) فيكون الفعل مضمناً معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة .
والمشاركة في الأموال : أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيباً في النتاج والحرث للأصنام . وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها ، قال تعالى : { وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] .
وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى ، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام ، كقولهم : عبد العُزى ، وعبد اللات ، وزيد مناة ، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم .
ومعنى { عِدْهُمْ } أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض ، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء ، كما قال أبو سفيان يوم أحُد « أعْلُ هبل » . ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذاباً بعد الموت لإنكار البعث ، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة .
وحذف مفعول { وعدهم } للتعميم في الموعود به . والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب . وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل .
ولذلك اعترض بجملة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .
والغرور : إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن . وتقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غرورا } في سورة [ الأنعام : 112 ] . والمعنى : أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع ، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غروراً لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس ؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة ، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل ، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلاً إليه بالإضرار . وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين .
وإظهار اسم الشيطان في قوله : { وما يعدهم الشيطان } دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر ، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها .