{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } علم من هذا ، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل ، وهو كذلك ، فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور ، والقمر يخسف ، والنجوم تندثر ، ويكون الناس في ظلمة ، فتشرق عند ذلك الأرض بنور ربها ، عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم ، وذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة ، وينشئهم نشأة يَقْوَوْنَ على أن لا يحرقهم نوره ، ويتمكنون أيضا من رؤيته ، وإلا ، فنوره تعالى عظيم ، لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال وديوانه ، وضع ونشر ، ليقرأ ما فيه من الحسنات والسيئات ، كما قال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ويقال للعامل من تمام العدل والإنصاف : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }
{ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } ليسألوا عن التبليغ ، وعن أممهم ، ويشهدوا عليهم . { س وَالشُّهَدَاءِ } من الملائكة ، والأعضاء والأرض . { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أي : العدل التام والقسط العظيم ، لأنه حساب صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة ، ومن هو محيط بكل شيء ، وكتابه الذي هو اللوح المحفوظ ، محيط بكل ما عملوه ، والحفظة الكرام ، والذين لا يعصون ربهم ، قد كتبت عليهم ما عملوه ، وأعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم ، فحكم بذلك من يعلم مقادير الأعمال ومقادير استحقاقها للثواب والعقاب .
( وأشرقت الأرض بنور ربها ) . .
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض . ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام . .
( ووضع الكتاب ) . . الحافظ لأعمال العباد . .
( وجيء بالنبيين والشهداء ) . . ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون . . وطوي كل خصام وجدال - في هذ المشهد - تنسيقاً لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام :
( وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون . ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) . .
فلا حاجة إلى كلمة تقال ، ولا إلى صوت واحد يرتفع .
ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى . لأن المقام هنا مقام روعة وجلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فأضاءت الأرض بنور ربها ، يقال : أشرقت الشمس : إذا صفت وأضاءت ، وشرقت : إذا طلعت ، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال : فما يتضارّون في نوره إلا كما يتضارّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأشْرَقَتِ الأرْضُ بنُورِ رَبّها قال : أضاءت .
وقوله : وَوُضِعَ الكِتَابُ يعني : كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَوُضِعَ الكِتَابُ قال : كتاب أعمالهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَوُضِعَ الكِتابُ قال : الحساب .
وقوله : وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشّهدَاءِ يقول : وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، وردّت عليهم في الدنيا ، حين أتتهم رسالة الله والشهداء ، يعني بالشهداء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يستشهدهم ربهم على الرسل ، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها ، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله ، والشهداء : جمع شهيد ، وهذا نظير قول الله : وكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا وقيل : عُني بقوله : الشّهدَاء : الذين قتلوا في سبيل الله وليس لما قالوا من ذلك في هذا الموضع كبير معنى ، لأن عقيب قوله : وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ ، وفي ذلك دليل واضح على صحة ما قلنا من أنه إنما دعى بالنبيين والشهداء للقضاء بين الأنبياء وأممها ، وأن الشهداء إنما هي جمع شهيد ، الذين يشهدون للأنبياء على أممهم كما ذكرنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَجِيءَ بالنّبِيّينِ وَالشّهدَاءِ فإنهم ليشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وبتكذيب الأمم إياهم .
ذكر من قال ما حكينا قوله من القول الاَخر :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشهدَاءِ : الذين استشهدوا في طاعة الله .
وقوله : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ يقول تعالى ذكره : وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ ، وقضاؤه بينهم بالحق ، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره ، ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت .
{ وأشرقت الأرض بنور ربها } بما أقام فيها من العدل سماه " نور " لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة . وفي الحديث " الظلم ظلمات يوم القيامة " .
ولذلك أضاف اسمه إلى { الأرض } أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه إلى نفسه . { ووضع الكتاب } للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع . وقيل اللوح المحفوظ يقابل الصحائف { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون . { وقضي بينهم } بين العباد . { بالحق وهم لا يظلمون } بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.