155- ثم أمر اللَّه موسى أن يأتيه في جماعة من قومه يعتذرون عَمَّن عبدوا العجل ، ووعدهم موْعدا ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل ، وهم يمثلون قومه ، وذهب بهم إلى الطور ، وهنالك سألوا اللَّه أن يكشف عنهم البلاء ، ويتوب على من عبد العجل منهم ، فأخذتهم في ذلك المكان زلزلة شديدة غشي عليهم بسببها ، وهذا لأنهم لم يفارقوا قومهم حين عبدوا العجل ، ولم يأمروهم بالمعروف ، ولم ينهوهم عن المنكر ، فلما رأي موسى ذلك قال : يا رب لو شئت إهلاكهم أهلكتهم من قبل خروجهم إلى الميقات ، وأهلكتني معهم ، ليرى ذلك بنو إسرائيل فلا يتهموني بقتلهم فلا تهلكنا يا رب بما فعل الجُهَّال منا ، فما محنة عبدة العجل إلا فتنة منك ، أضللت بها من شئت إضلاله ممن سلكوا سبيل الشر ، وهديت بها من شئت هدايته . وأنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا .
و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم ، ليعتذروا لقومهم عند ربهم ، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه ، فلما حضروه ، قالوا : يا موسى ، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة ، وأساءوا الأدب معه ، ف أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصعقوا وهلكوا .
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم ، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أي : ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة ، تردعهم عما قالوا وفعلوا ، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ، ويخاف من ذهاب دينه فقال : إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أي : أنت خير من غفر ، وأولى من رحم ، وأكرم من أعطى وتفضل ، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ، قال : المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا ، هو التزام طاعتك والإيمان بك ، وأن من حضره عقله ورشده ، وتم على ما وهبته من التوفيق ، فإنه لم يزل مستقيما ، وأما من ضعف عقله ، وسفه رأيه ، وصرفته الفتنة ، فهو الذي فعل ما فعل ، لذينك السببين ، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، فاغفر لنا وارحمنا .
فأجاب اللّه سؤاله ، وأحياهم من بعد موتهم ، وغفر لهم ذنوبهم .
ويمضي السياق بالقصة ، فإذا نحن أمام مشهد جديد . المشهد الثاني عشر . مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه :
( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا . فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا ، وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) . .
وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات . وربما كان لإعلان التوبة ، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة - وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو : أن يقتلوا أنفسهم ، فيقتل المطيع منهم من عصى ؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك ؛ وقبل كفارتهم - وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم . أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم ، فصيغة العبارة : ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً . . لميقاتنا ) . تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار . .
ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين ؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا . ذلك أنهم - كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة ، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح . . وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل ، التي تشمل خيارهم وشرارهم ، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار . وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار !
فأما موسى - عليه السلام - فقد توجه الى ربه ، يتوسل اليه ، ويطلب المغفرة والرحمة ، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة :
( فلما أخذتهم الرجفة قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) . .
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد ، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه ؛ وأن يرد عنهم فتنته ، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم :
( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ ) . .
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام . زيادة في طلب استبعاد الهلاك . . أي : رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا .
( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) . .
يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع ؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء ؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين ! . وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَىَ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مّن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَآءُ مِنّآ إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا . فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا ذلك المكان ، قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا . فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخّير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا ، وتطهّروا ، وطهّروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سينا لميقات وقّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضُرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره ، وانكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ، فَأخَذتْهُمُ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة ، فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا ، وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختار سبعين رجلاً ، فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . قال موسى : رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر ، عن ميمون : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : لموعدهم الذي وعدهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : اختارهم لتمام الوعد .
وقال آخرون : إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السلولي ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : انطلق موسى وهارون وشَبّر وشَبِير ، فانطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير ، فتوفاه الله . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله . قالوا : أنت قتلته ، حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم قال : فاختاروا سبعين رجلاً . قال : فذلك قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا . قال : فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكنني توفاني الله . قالوا : يا موسى لن نعصيَ بعد اليوم قال : فأخذتهم الرجفة . قال : فجعل موسى يرجع يمينا وشمالاً ، وقال : يا رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيّ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني سلول ، أنه سمع عليّا رضي الله عنه يقول في هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا قال : كان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل . قال : فلما مات دفنه موسى . قال : فلما أتى بني إسرائيل ، قالوا له : أين هاون ؟ قال : مات . فقالوا : قتلته قال : فاختار منهم سبعين رجلاً . قال : فلما أتوا القبر ، قال موسى : أُقتلت أو متّ ؟ قال : متّ . قال : فأصعقوا ، فقال موسى : ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت ؟ يقولون : أنت قتلتهم قال : فأحيوا وجعلوا أنبياء .
حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الربيع بن حبيب ، قال : سمعت أبا سعيد ، يعني الرقاشيّ ، وقرأ هذه الاَية : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال : كانوا أبناء ما عدا عشرين ولم يتجاوزوا الأربعين ، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهله وصباه ، وأن من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئا .
وقال آخرون : إنما أخذت القوم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل ، لا لأنهم كانوا من عبَدته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقرأ حتى بلغ : السّفَهاءُ مِنا ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل ، وقد كرهوا أن يجامعوهم عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ممن لم يكن قال ذلك القول على أنهم لم يجامعوهم عليه ، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل . فلما خرجوا ودعوا ، أماتهم الله ثم أحياهم . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وأيّايَ أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : قال مجاهد : وَاخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا والميقات : الموعد . فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء ، فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابه قومهم . قال ابن سعد : فحدثني محمد بن كعب القرظي ، قال : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف . قال : فأخذتهم الرجفة فماتوا ، ثم أحياهم الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عون ، عن سعيد بن حيان ، عن ابن عباس : إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه ، إنما أخذتهم الرجفة أنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عون ، قال : حدثنا سعيد بن حيان ، عن ابن عباس ، بنحوه .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فقال بعض نحويي البصرة : معناه : واختار موسى من قومه سبعين رجلاً ، فلما نزع «مِن » أعمل الفعل ، كما قال الفرزدق :
وَمِنّا الّذِي اخْتِيرَ الرّجالَ سمَاحَة ***وَجُودا إذَا هَبّ الرّياحُ الزّعازِعُ
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِه ***فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مالٍ وَذَا نَشبِ
اخْتَرْتُكَ النّاسَ إذْ غَثّتْ خَلائِقُهُمْ ***واعْتَلّ مَن كانَ يُرْجَى عندَهُ السّولُ
وقال بعض نحوّيي الكوفة : إنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت مِن ، لأنه مأخوذ من قولك : هؤلاء خير القوم ، وخير من القوم ، فإذا جازت الإضافة مكان «من » ولم يتغير المعنى ، استجازوا أن يقولوا : اخترتكم رجلاً ، واخترت منكم رجلاً وقد قال الشاعر :
***لَهُ اخْتَرْها قَلُوصا سَمِينَةً ***
***تَحْتَ التي اخْتارَ لَهُ اللّهُ الشّجَرْ ***
بمعنى : اختارها له الله من الشجر .
وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب لدلالة الاختيار على طلب «من » التي بمعنى التبعيض ، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حشو الكلام إذا عرف موضعه ، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حذفت ، فهذا من ذلك إن شاء الله .
وقد بيّنا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها ، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد ، فأماتهم أو أصعقهم ، فسلب أفهامهم . وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع ، وقول من قال : إنها كانت صاعقة أماتتهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا اختارهم موسى لتمام الموعد . فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم الله .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قال : رجف بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا : أي بعبادة من عبد العجل . قالوا : وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل ، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل ، فذلك حين يقول موسى : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدى مَنْ تَشاءُ .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل إذا انصرفتُ إليهم ، وليسوا معي ، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا ، قام موسى يناشد ربه ويدعوه ، ويرغب إليه يقول : ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا ؟ أي إن هذا لهم هلاك ، قد اخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد ؟ فما الذي يصدّقونني به أو يأمنونني عليه بعد هذا ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا : أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل بك غيرك ؟
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله : أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا وأنه إنما عنى بالسفهاء : عبدة العجل وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم ، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها .
قال : فإن قال قائل : فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم ، فيقول : أتهلكنا بذنوب من عبد العجل ، ونحن من ذلك برآء ؟ قيل : جائز أن يكون معنى الإهلاك : قبض الأرواح على غير وجه العقوبة ، كما قال جلّ ثناؤه : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني : مات ، فيقول : أتميتنا بما فعل السفهاء منا .
وأما قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ فإنه يقول جلّ ثناؤه : ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم ما عبدوا دونك ، إلا فتنة منك أصابتهم . ويعني بالفتنة : الابتلاء والاختبار . يقول : ابتليتهم بها ليتبين الذي يضلّ عن الحقّ بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته . وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله ، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه .
وبنحو ما قلنا في الفتنة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : ثنا حبويه الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : إلاّ فِتْنَتُكَ : إلا بليتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا ابن جعفر ، عن الربيع بن أنس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ قال : بليتك .
قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء ، وتصرفه عمن تشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ أنت فتنتهم .
وقوله : أنْتَ وَلِيّنا يقول : أنت ناصرنا . فاغْفِرْ لَنا يقول : فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها . وَارْحَمْنا : تعطّف علينا برحمتك . وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ يقول : خير من صفح عن جُرم وستر على ذنب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لميقاتنا}، يعني لميعادنا، فانطلق بهم، فتركهم في أصل الجبل، فلما نزل موسى إليهم، قالوا: {أرنا الله جهرة}، فأخذتهم الرجفة، يعني الموت عقوبة لما قالوا، وبقى موسى وحده يبكي، {فلما أخذتهم الرجفة قال رب} ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت خيارهم، رب {لو شئت أهلكتهم}، يعني أمتهم، {من قبل وإياي} معهم من قبل أن يصحبوني، {أتهلكنا} عقوبة {بما فعل السفهاء منا}، وظن موسى، عليه السلام، إنما عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل، فهم السفهاء، فقال موسى: {إن هي إلا فتنتك}، يعني ما هي إلا بلاؤك، {تضل بها} بالفتنة {من تشاء وتهدي} من الفتنة {من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل... فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي...
وقد بيّنا معنى الرجفة فيما مضى بشواهدها، وأنها ما رجف بالقوم وأرعبهم وحرّكهم وأهلكهم بعد، فأماتهم أو أصعقهم...عن مجاهد: فَلَمّا أخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ ماتوا ثم أحياهم.
"أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتهْدِي مَنْ تَشاءُ أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا: أي بعبادة من عبد العجل. قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل، وقال موسى ما قال ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك... وقال آخرون: معنى ذلك: أن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل إذا انصرفتُ إليهم، وليسوا معي، والسفهاء على هذا القول كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم... وقال آخرون...: أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ولا استبدل بك غيرك؟
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: "أُتهْلِكُنا بِمَا فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا "وأنه إنما عنى بالسفهاء: عبدة العجل، وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها.
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى الإهلاك: قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جلّ ثناؤه: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني: مات، فيقول: أتميتنا بما فعل السفهاء منا.
وأما قوله: "إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ "فإنه يقول جلّ ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم ما عبدوا دونك، إلا فتنة منك أصابتهم. ويعني بالفتنة: الابتلاء والاختبار. يقول: ابتليتهم بها ليتبين الذي يضلّ عن الحقّ بعبادته إياه والذي يهتدي بترك عبادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جلّ ثناؤه... عن أبي العالية: "إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ" قال: بليتك...
وقوله: "أنْتَ وَلِيّنا" يقول: أنت ناصرنا. "فاغْفِرْ لَنا" يقول: فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها. "وَارْحَمْنا": تعطّف علينا برحمتك. "وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ" يقول: خير من صفح عن جُرم وستر على ذنب.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي الكلام محذوف وتقديره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً. وفي قوله: {لمِيقَاتِنَا} قولان: أحدهما: أنه الميقات المذكور في سؤال الرؤية. والثاني أنه ميقات غير الأول وهو ميقات التوبة من عبادة العجل. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزلزلة، قاله الكلبي. والثاني: أنه الموت. قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم... {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهَاءُ مِنَّآ} فيه قولان: أحدهما: أنه سؤال استفهام خوفاً من أن يكون الله قد عمهم بانتقامه كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. والثاني: أنه سؤال نفي، وتقديره: إنك لا تعذب إلاَّ مذنباً فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا. فحكي أن الله أمات بالرجفة السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، لا موت فناء ولكن موت ابتلاء ليثبت به من أطاع وينتقم به ممن عصى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الاختيار هو: إرادة ما هو خير يقال: خيره بين أمرين فاختار أحدهما: والاختيار والإيثار بمعنى واحد... وقوله "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا "معناه النفي، وإن كان بصورة الانكار... والمعنى: إنك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فبهذا نسألك رفع المحنة بالإهلاك عنا. وقوله "إن هي إلا فتنتك" معناه: إن الرجفة إلا اختبارك وابتلاؤك ومحنتك أي تشديدك تشديد التعبد علينا بالصبر على ما أنزلته بنا من هذه الرجفة والصاعقة اللتين جعلتهما عقابا لمن سأل الرؤية وزجرا لهم ولغيرهم وقوله "تضل بها من تشاء" معناه تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك، وتهدي بالرضا بها والصبر عليها من تشاء، وإنما نسب الضلال إلى الله لأنهم ضلوا عند أمره وامتحانه، كما أضيفت زيادة الرجس إلى السورة في قوله "فزادتهم رجسا إلى رجسهم" وإن كانوا هم الذين ازدادوا عندها. والمعنى تختبر بالمحنة من تشاء لينتقل صاحبه عن الضلالة، وتهدي من تشاء معناه تبصره بدلالة المحنة ليثبت صاحبها على الهداية من تشاء...
...واعلم أن قوله: {أنت ولينا} يفيد الحصر ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت،وقوله: {وأنت خير الغافرين} معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض، بل لمحض الفضل والكرم، فوجب القطع بكونه {خير الغافرين} والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك؛ يقول: إن الأمرُ إلا أمرُك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضِل لمن هَدَيت، ولا مُعطِي لما مَنَعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر.
وقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الغَفْر هو: الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أي: لا يغفر الذنوب إلا أنت،
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جرياً على مقتضى كرمك وإنما قال: {وإياي} تسليماً منه وتواضعاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن هي إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} "إن "نافية والفتنة الاختيار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة والباء في "بها" للسببية، أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا لأخذ الرجفة إياهم إلا محنتك وابتلاؤك الذي جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية، وما يستحقون عليه من عقوبة ومثوبة، وسنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق، والنظام الحكيم في الخلق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بظالم لهم في تقديرك، وتهدي من تشاء ولست بمحاب لهم في توفيقك، بل أمر مشيئتك دائر بين العدل والفضل، ولك الخلق والأمر.
{أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} أي أنت المتولي لأمورنا، والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك، أو التقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك، بأن تستر ذلك علينا، وتجعله بعفوك كأنه لم يصدر عنا، وارحمنا برحمتك الخاصة، فوق ما شملت به الخلق كلهم من رحمتك العامة، وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا، فلا يتعاظمك ذنب، ولا يعارض غفرانك ما يعارض غفران سواك من عجز أو ضعف أو هوى نفس- وما ذكر في المغفرة يدل على اعتبار مثله في الرحمة لدلالته عليه- أي وأنت خير الراحمين رحمة وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فإن رحمة جميع الراحمين من خلقك، نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك، حذف ذكر الرحمة استغناء عنه بذكر المغفرة فإن ترتيب التذييل في الثناء عليه تعالى على طلب مغفرته ورحمته معا، يقتضي أن يكون هذا الثناء بهما معا، فاكتفى بذكر الأولى لدلالتها على الثانية قطعا، فهو من الإيجاز المسمى في علم البديع بالاكتفاء.
وقد غفل عن هذا من قال من المفسرين أنه اكتفى بذكر المغفرة لأنها الأهم، ولم لم يكتف بذكر الرحمة لأنها أعم، ولأنها قد تستلزم المغفرة دون العكس، فإن معنى المغفرة سلبي وهو عدم المؤاخذة على الذنب، والرحمة فوق ذلك فهي إحسان إلى المذنب لا يستحقه إلا بعد المغفرة ولذلك يقدم ذكر المغفرة على ذكر الرحمة، لأن التخلية كما يقولون مقدمة على التحلية، فلا يليق خلع الحلل النفسية، إلا على الأبدان النظيفة، وقد قال موسى عليه السلام في دعائه لنفسه ولأخيه {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} الآية، وقال نوح عند توبته من سؤاله النجاة لولده الكافر {وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47] وعلمنا تعالى من دعائه في خاتمة سورة البقرة {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا} [البقرة: 286] وقلما ذكر اسم الله {الغفور} في كتابه العزيز إلا مقرونا باسمه {الرحيم} ومن غير الأكثر قرنه بالشكور وبالحليم وبالودود ويقرب معناهن من معنى الرحيم، وورد قرنه بالعفو وبالعزيز لاقتضاء المقام ذلك.
ودعاء موسى عليه السلام هنا لنفسه مع قومه بضمير الجمع قد اقتضاه مقام المناجاة والمعرفة الكاملة، ومن كان أعرف بالله وأكمل استحضارا لعظمته، كان أشد شعورا بالحاجة إلى مغفرته ورحمته، وإن كان ما يستغفر منه تقصيرا صغيرا بالنسبة إلى ذنوب الغافلين والجاهلين، أو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن كان هذا الدعاء عقب طلب الرؤية، فوجه طلبه للمغفرة والرحمة لنفسه أظهر، لأن طلبه ذاك كان ذنبا له، صرح بالتوبة منه، وإن كان عقب طلب السبعين رؤية الله جهرة فالأمر أظهر، لأن الذنب مشترك، وإن كان على أثر حادثة عبادة العجل، فقد علم ما كان من شدته فيها على أخيه هارون عليهما السلام، وأنه طلب لكل من نفسه وأخيه المغفرة على الانفراد، والرحمة بالاشتراك، وإن كان عقب تمرد بني إسرائيل الذي عاقبهم الله تعالى عليه بإهلاك بعضهم وتهديدهم بالاستئصال، فإدخال نفسه معهم من باب الاستعطاف، إذ لم ينقل عنه فيه شيء مما يعد من ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاختيار: تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل (خار). {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل، وحضورَهم ذلك. وسكوتهم، وهي المعنيُ بقوله: {إن هي إلا فتنتك} وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب. والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله، وخوف بطشه، ومقامُ الرسل من الخشية، ودعاء موسى، إلخ {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفهاً؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلاهاً لهم.
والخبر في قوله: {إن هي إلا فتنتك} الآية: مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم، وليس مستعملاً في الاعتذار لقومه بقرينة قوله: {تضل بها من تشاء} الذي هو في موضع الحال من {فتنتك} فالإضلال بها حال من أحْوالها.
ثم عرَّض بطلب الهداية لهم بقوله: {وتهدي من تشاء} والمجرور في قوله {بها} متعلق بفعل {تضل} وحده ولا يتنازعه معه فعل {تهدي} لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة، فمن قدر في التفسير: وتهدي بها أو نحوه، فقد غفل.
والباء: إما للملابسة، أي تضل من تشاء ملابساً لها، وإما للسببية، أي تضل بسبب تلك الفتنة، فهي من جهة فتنة، ومن جهة سبب ضلال.
والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال، ومرجها، وتشتت البال، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى: {وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة} في سورة البقرة (102). وقوله: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} في سورة العقود (71) وقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} في سورة الأنعام (23).
والقصد من جملة: {أنت ولينا} الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى، تمهيداً لمطلب المغفرة والرحمة، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره.
والولي: الذي له وَلاية على أحد، والوَلايةِ حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مَولى، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي (ولي) وللضعيف (مَولى) وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد، لأن المرء لا يتولى غيرَ مواليه، كان قوله: {أنتَ ولينا} مقتضياً عدم الانتصار بغير الله. وفي صريحه صيغة قصر.
والتفريع عن الولاية في قوله: {فاغفر لنا} تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران.
وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا. والرضا يقتضي الإحسان.
و {وخيرُ الغافرين} الذي يغفر كثيراً، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} في سورة آل عمران (150).
وإنما عطف جملة: {وأنت خير الغافرين} لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة، فعطف على الدعاء، كانه قيل: فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة...