{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف العلماء في معنى العود ، فقيل : معناه العزم على جماع من ظاهر منها ، وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة ، ويدل على هذا ، أن الله تعالى ذكر في الكفارة{[1003]} أنها تكون قبل المسيس ، وذلك إنما يكون بمجرد العزم ، وقيل : معناه حقيقة الوطء ، ويدل على ذلك أن الله قال : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } والذي قالوا إنما هو الوطء .
وعلى كل من القولين { ف } إذا وجد العود ، صار كفارة هذا التحريم { تحرير رَقَبَةٍ } مُؤْمِنَةٍ كما قيدت في آية أخرى{[1004]} ذكر أو أنثى ، بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة{[1005]} بالعمل .
{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أي : يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة .
{ ذَلِكُمْ } الحكم الذي ذكرناه لكم ، { تُوعَظُونَ بِهِ } أي : يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به ، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب ، فالذي يريد أن يظاهر ، إذا ذكر أنه يجب عليه عتق رقبة كف نفسه عنه ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله .
وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع . ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا . ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير ) . .
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة ، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل ، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها . وهناك أقوال كثيرة في معنى : ( ثم يعودون لما قالوا ) . . نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار . فهذا أقرب ما يناسب السياق . فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله . . ثم التعقيب : ( ذلكم توعظون به ) . . فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف ( والله بما تعملون خبير ) . . خبير بحقيقته ، وخبير بوقوعه ، وخبير بنيتكم فيه .
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب ، وتربية النفوس ، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
يقول جلّ ثناؤه : والذين يقولون لنسائهم : أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا .
وقوله : ثُمّ يَعُودُونَ لمَا قالُوا اختلف أهل العلم في معنى العود لما قال المظاهر ، فقال بعضهم : هو الرجوع في تحريم ما حرّم على نفسه من زوجته التي كانت له حلالاً قبل تظاهره ، فيحلها بعد تحريمه إياها على نفسه بعزمه على غشيانها ووطئها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال : يريد أن يغشى بعد قوله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ثُمّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال : حرّمها ، ثم يريد أن يعود لها فيطأها .
وقال آخرون نحو هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إمساكه إياها بعد تظهيره منها ، وتركه فراقها عود منه لما قال ، عَزَم على الوطء أو لم يعزم . وكان أبو العالية يقول : معنى قوله : لِمَا قالُوا : فيما قالوا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، قال : سمعت أبا العالية يقول في قوله : ثُمّ يَعُودُونَ لِما قالُوا : أي يرجع فيه .
واختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة في ذلك المعنى : فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، فمن لم يجد فصيام ، فإطعام ستين مسكينا ، ثم يعودون لما قالوا إنا لا نفعله فيفعلونه هذا الظهار ، يقول : هي عليّ كظهر أمي ، وما أشبه هذا من الكلام ، فإذا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا عاد لما قد قال : هو عليّ حرام يفعله . وكأن قائل هذا القول كان يرى أن هذا من المقدّم الذي معناه التأخير .
وقال بعض نحويي الكوفة ثُمّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يصلح فيها في العربية : ثم يعودون إلى ما قالوا ، وفيما قالوا ، يريدون النكاح ، يريد : يرجعون عما قالوا ، وفي نقض ما قالوا ، قال : ويجوز في العربية أن تقول : إن عاد لما فعل ، تريد إن فعل مرّة أخرى ، ويجوز إن عاد لما فعل : إن نقض ما فعل ، وهو كما تقول : حلف أن يضربك ، فيكون معناه : حلف لا يضربك ، وحلف ليضربنك .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معنى اللام في قوله لِمَا قالُوا بمعنى إلى أو في ، لأن معنى الكلام : ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه . وإن قيل معناه : ثم يعودون إلى تحليل ما حرّموا ، أو في تحليل ما حرّموا فصواب ، لأن كلّ ذلك عود له ، فتأويل الكلام : ثم يعودون لتحليل ما حرّموا على أنفسهم مما أحله الله لهم .
وقوله : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَمَاسّا يقول : فعليه تحرير رقبة ، يعني عتق رقبة عبد أو أمة ، من قبل أن يماسّ الرجل المظاهر امرأته التي ظاهر منها أو تماسه .
واختلف في المعنى بالمسيس في هذا الموضع نظير اختلافهم في قوله : وَإنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسّوهُنّ وقد ذكرنا ذلك هنالك . وسنذكر بعض ما لم نذكره هنالك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا فهو الرجل يقول لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي فإذا قال ذلك ، فليس يحلّ له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر عن يمينه بعتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والمسّ : النكاح فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وإن هو قال لها : أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا ، فليس يقع في ذلك طهار حتى يحنث ، فإن حنث فلا يقربها حتى يكفّر ، ولا يقع في الظهار طلاق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : حدثنا أشعث ، عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يغشى المظاهِرُ دون الفرج .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، قال : قال سفيان : إنما المظاهرة عن الجماع ولم ير بأسا أن يقضي حاجته دون الفرج أو فوق الفرج ، أو حيث يشاء ، أو يباشر .
وقال آخرون : عني بذلك كلّ معاني المسيس ، وقالوا : الآية على العموم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا وهيب ، عن يونس ، قال : بلغني عن الحسن أنه كره للمظاهر المسيس .
وقوله : ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ يقول تعالى ذكره : أوجب ربكم ذلك عليكم عظة لكم تتعظون به ، فتنتهون عن الظهار وقول الزور واللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبُيرٌ يقول تعالى ذكره : والله بأعمالكم التي تعلمونها أيها الناس ذو خبرة لا يخفى عليه شيء منها ، وهو مجازيكم عليها ، فانتهوا عن قول المنكر والزور .