قوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } : مبتدأٌ . وقولُه : " فتحريرُ رقبةٍ " مبتدأٌ ، وخبرُه مقدرٌ أي : فعليهم . أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : فيلزَمُهم تحريرُ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فالواجبُ عليهم تحريرُ . وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط .
قوله : { لِمَا قَالُواْ } في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها متعلقةٌ ب " يعودون " . وفيه معانٍ ، أحدُها : والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام . الثاني : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه : " عادَ غيثٌ على ما أفسَد " أي : تداركه بالإِصلاح والمعنى : أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه ، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار . الثالث : أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار ، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] والمعنى : ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ ، قال ذلك الزمخشريُّ . قلت : وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري : ثم يعودون للوَطْء أي : يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارةُ عند هؤلاء . الرابع : " لما قالوا " أي : يقولونه ثانياً فلو قال : " أنتِ عليَّ كظهر أمِّي " مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال . وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين ، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين . الخامس : أن المعنى : أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار ، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه ، فهذا هو العوْدَ لِما قال ، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً . وقال : العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ .
وقال مكي : " اللامُ متعلقةٌ ب " يعودون " أي : يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ ، وهُنَّ الأزواجُ ، ف " ما " والفعلُ مصدرٌ أي : لمقولِهم ، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو : " هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير " أي : مَضْرُوبُه ، فيصير معنى " لقولهم " للمقولِ فيه الظِّهارُ أي : " لوَطْئِه " . قلت : وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث الذي تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري ومالك ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ " ما " مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول .
وفيه نظرٌ ؛ إذ يجوز ذلك ، وإنْ كانت " ما " غيرَ مصدرية ، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً ، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى ؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ ، إذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلافُ الأصلِ ، فيلزمُ الخروجُ عن الأصل بشيئين : بالمصدرِ المؤولِ .
ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول ، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه . لا يُقال : إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي : يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها ، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها ، أو يعودون لإِمساكِها ، والأصلُ عدمُ الحذفِ ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي : يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ . ويدل على جوازِ كَوْنِ " ما " في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : " يتعلَّقُ ب " يعودون " بمعنى : يعودون للمقول فيه . هذا إنْ جَعَلْتَ " ما " مصدريةً ، ويجوز أَنْ تجعلَها بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً " .
الثاني : أنَّ اللامَ تتعلَّقُ ب " تحرير " . وفي الكلامَ تقديمٌ وتأخيرٌ . والتقدير : والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك . وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش . قال الشيخ : " وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية " . وفيه نظرٌ . لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير ، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه ؛ لأنه خلافُ الأصل .
الثالث : أن اللامَ بمعنى " إلى " . الرابع : أنها بمعنى " في " نَقَلهما أبو البقاء ، وهما ضعيفان جداً ، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ ب " يَعُودون " . الخامس : أنها متعلِّقةٌ ب " يقولون " . قال مكي : " وقال قتادةُ : ثم يعودون لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه ، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ ب " يقولون " . قلتُ : ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فَهم تعلُّقَها ب " يقولون " على تفسيرِ قتادةَ ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها ب " يَعودون " ، وليس لتعلُّقِها ب " يقولون " وجهٌ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.