فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (3)

{ والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } لما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً ووبخ فاعليه شرع في تفصيل أحكامه ، والمعنى : والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور ، ثم يعودون لما قالوا : أي إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي كما في قوله : { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } [ النور : 17 ] : أي إلى مثله . قال الأخفش : { لِمَا قَالُواْ } و«إلى ما قالوا » يتعاقبان . قال : { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ } [ هود : 36 ] وقال الفرّاء : اللام بمعنى عن ، والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء . وقال الزجاج : المعنى : ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا . قال الأخفش أيضاً : الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } لما قالوا : أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا . فالجار في قوله : { لِمَا قَالُواْ } متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم .

واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال : الأوّل : أنه العزم على الوطء وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه . وروي عن مالك . وقيل : هو الوطء نفسه وبه قال الحسن ، وروي أيضاً عن مالك . وقيل : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، وبه قال الشافعي . وقيل : هو الكفارة ، والمعنى : أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة ، وبه قال الليث بن سعد ، وروي عن أبي حنيفة . وقيل : هو تكرير الظهار بلفظه ، وبه قال أهل الظاهر . وروي عن بكير بن الأشبح وأبي العالية والفراء .

والمعنى : ثم يعودون إلى قول ما قالوا . والموصول مبتدأ وخبره : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } على تقدير ، فعليهم تحرير رقبة كما تقدّم ، أو فالواجب عليهم إعتاق رقبة ، يقال : حررته : أي جعلته حرّاً ، والظاهر أنها تجزئ أيّ رقبة كانت ، وقيل : يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل ؛ وبالأول : قال أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : قال مالك والشافعي ، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } المراد بالتماس هنا : الجماع ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر ، وقيل : إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة ، وبه قال مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ وخبره : { تُوعَظُونَ بِهِ } أي تؤمرون به ، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار ، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة . قال الزجاج : معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به : أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم عليها .

/خ4