قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } قال الزجاج : الذين رفع بالابتداء وخبره فعليهم تحرير رقبة ، ولم يذكر عليهم لأن في الكلام دليلا عليه ، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة . أما قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة ، ولا بد أولا من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة ، وثانيا من بيان أقوال أهل الشريعة ، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء : لا فرق في اللغة بين أن يقال : يعودون لما قالوا ، وإلى ما قالوا وفيما قالوا ، أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان ، كقوله : { الحمد لله الذي هدانا لهذا } وقال : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وقال تعالى : { وأوحى إلى نوح } وقال : { بأن ربك أوحى لها } .
المسألة الثانية : لفظ { ما قالوا } في قوله : { ثم يعودون لما قالوا } فيه وجهان ( أحدهما ) أنه لفظ الظهار ، والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ ( والثاني ) أن يكون المراد بقوله : { لما قالوا } المقول فيه ، وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، ونظيره قوله تعالى : { ونرثه ما يقول } أي ونرثه المقول ، وقال عليه السلام : " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " وإنما هو عائد في الموهوب ، ويقول الرجل : اللهم أنت رجاؤنا ، أي مرجونا ، وقال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي الموقن به ، وعلى هذا معنى قوله : { ثم يعودون لما قالوا } أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول ، ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول : قال أهل اللغة ، يجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي فعله مرة أخرى ، ويجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي نقض ما فعل ، وهذا كلام معقول ، لأن من فعل شيئا ثم أراد أن يقال مثله ، فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضا ، وأيضا من فعل شيئا ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه ، لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه .
المسألة الثالثة : ظهر مما قدمنا أن قوله : { ثم يعودون لما قالوا } يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ، ويحتمل أن يكون المراد منه ، ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى ، أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين واختلفوا فيه على وجوه : ( الأول ) وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم ، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم ، ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق ، فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم ، فحينئذ تجب عليه الكفارة ، واحتج أبو بكر الرازي في «أحكام القرآن » على فساد هذا القول من وجهين : ( الأول ) أنه تعالى قال : { ثم يعودون لما قالوا } وثم تقتضي التراخي ، وعلى هذا القول يكون المظاهر عائدا عقيب القول بلا تراخ ، وذلك خلاف مقتضى الآية ( الثاني ) أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها ، فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة ، فلا يكون إمساك الزوجة نقضا لقوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك ( والجواب عن الأول ) أن هذا أيضا وارد على قول أبي حنيفة فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء ، فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي ، مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك ، فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضا ، ثم نقول : إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه ، لا يحكم عليه بكونه عائدا ، فقد تأخر كونه عائدا عن كونه مظاهرا بذلك القدر من الزمان ، وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة : ثم ( والجواب عن الثاني ) أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية ، أو في الاستمتاع بها ، فوجب حمله على الكل ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، يقتضي تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية ، فكان هذا الإمساك مناقضا لمقتضى قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب الحكم عليه بكونه عائدا ، وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي ( الوجه الثاني ) في تفسير العود ، وهو قول أبي حنيفة : أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، قالوا : وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ، ثم قصد استباحة هذه الأشياء كان ذلك مناقضا لقوله : أنت علي كظهر أمي ، واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، لأنه لما شبهها بالأم ، لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها ، فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع ، وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل ، وإذا كان كذلك ، فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة ، فقد نقض حكم قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن يتحقق العود ( الوجه الثالث ) في تفسير العود وهو قول مالك : أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها وهذا ضعيف ، لأن القصة إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها ، وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله ( الوجه الرابع ) في تفسير العود وهو قول طاوس والحسن البصري : أن العود إليها عبارة عن جماعها ، وهذا خطأ لأن قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } بفاء التعقيب في قوله : { فتحرير رقبة } يقتضي كون التكفير بعد العود ، ويقتضي قوله : { من قبل أن يتماسا } أن يكون التكفير قبل الجماع ، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود ، وقبل الجماع ، جب أن يكون العود غير الجماع ، واعلم أن أصحابنا قالوا : العود المذكور هاهنا ، هب أنه صالح للجماع ، أو للعزم على الجماع ، أو لاستباحة الجماع ، إلا أن الذي قاله الشافعي رحمه الله ، هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود ، وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها البتة .
الاحتمال الثاني : في قوله : { ثم يعودون } أي يفعلون مثل ما فعلوه ، وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضا وجوه ( الأول ) قال الثوري : العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام ، وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار ، فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، فقال : { والذين يظاهرون من نسائهم } يريد في الجاهلية : { ثم يعودون لما قالوا } أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية ، فكفارته كذا وكذا ، قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة : ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئا غير الظهار ، فإن قالوا : المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام ، والعرب تضمر لفظ كان ، كما في قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } أي ما كانت تتلو الشياطين ، قلنا : الإضمار خلاف الأصل ( القول الثاني ) قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد ، فإن لم يكن يكرر لم يكن عودا ، وهذا قول أهل الظاهر ، واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله : { ثم يعودون لما قالوا } يدل على إعادة ما فعلوه ، وهذا لا يكون إلا بالتكرير ، وهذا أيضا ضعيف من وجهين : ( الأول ) أنه لو كان المراد هذا لكان يقول ، ثم يعيدون ما قالوا ( الثاني ) حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة ، وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال : كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعتها فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك وقلت : أمض في حكم الله ، فقال : « أعتق رقبة » فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود ، هو أن يحلف على ما قال أولا من لفظ الظهار ، فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياسا على ما لو قال في بعض الأطعمة ، إنه حرام علي كلحم الآدمي ، فإنه لا تلزمه الكفارة ، فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين ، وهذا أيضا ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك .
قوله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار ، فللشافعي قولان : ( أحدهما ) أنه يحرم الجماع فقط ( القول الثاني ) وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه ( الأول ) قوله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } فكان ذلك عاما في جميع ضروب المسيس ، من لمس بيد أو غيرها ( والثاني ) قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم ، فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه ، فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك ( الثالث ) روى عكرمة : « أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال اعتزلها حتى تكفر »
المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مرارا ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد ، وأراد بالتكرار التأكيد ، فإنه يكون عليه كفارة واحدة ، وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، دليلنا أن قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة } يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة ، فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة ، والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى ، أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال ، ولأن تأخر العلة عن الحكم محال ، فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة ثانية ، واحتج مالك بأن قوله : { والذين يظاهرون } يتناول من ظاهر مرة واحدة ، ومن ظاهر مرارا كثيرة ، ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة ، فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار ، سواء كان مرة واحدة أو مرارا كثيرة ( والجواب ) أنه تعالى قال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة ، ولما كان باطلا ، فكذا ما قلتموه .
المسألة الثالثة : رجل تحته أربعة نسوة فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال : أنتن علي كظهر أمي ، للشافعي قولان : أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات ، نظرا إلى عدد اللواتي ظاهر منهن ، ودليله ما ذكرنا ، أنه ظاهر عن هذه ، فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار ، وظاهر أيضا عن تلك ، فالظهار الثاني لا بد وأن يوجب كفارة أخرى .
المسألة الرابعة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة ، فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحاق رحمهم الله ، وقال بعضهم : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان ، وهو قول عبدالرحمن بن مهدي دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود ، فهاهنا فاتت صفة القبلية ، فيبقى أصل وجوب الكفارة ، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى .
المسألة الخامسة : الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ويجبره على التكفير ، وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع ، قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها .
المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزئ سواء كانت مؤمنة أو كافرة ، لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب ، وقال الشافعي : لا بد وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان ( الأول ) أن المشرك نجس ، لقوله تعالى : { إنما المشركون نجس } وكل نجس خبيث بإجماع الأمة وقال تعالى : { ولا تيمموا الخبيث } ( الثاني ) أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فكذا هاهنا ، والجامع أن الإعتاق إنعام ، فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله ، وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله ، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلا لهذه المصلحة .
المسألة السابعة : إعتاق المكاتب لا يجزئ عند الشافعي رحمه الله ، وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئا جاز عن الكفارة ، وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئا ، فظاهر الرواية أنه لا يجزئ ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزئ ، حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة لقوله تعالى : { وفي الرقاب } والرقبة مجزئة لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } ، حجة الشافعي أن المقتضى لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم ، بعد إعتاق المكاتب ، وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود هاهنا ، فوجب أن يبقى على الأصل ، بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان ، بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه ، لكنه يمكن نقصان في رقه ، بدليل أنه صار أحق بمكاسبه ، ويمتنع على المولى التصرفات فيه ، ولو أتلفه المولى يضمن قيمته ، ولو وطئ مكاتبته يغرم المهر ، ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف ، ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب ، ( والوجه الثاني ) أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزئ عن الكفارة ، فكذا إذا أعتقه المورث والجامع كون الملك ضعيفا .
المسألة الثامنة : لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه ، لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يقع ، حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية ، وحجة الشافعي ما تقدم .
المسألة التاسعة : قال أبو حنيفة : الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام ، وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير ، حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام ، وحقيقة الإطعام هو التمكين ، بدليل قول تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك ، فكذا هاهنا ، وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر .
المسألة العاشرة : قال الشافعي : لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيرا أو أرزا أو تمرا أو أقطا ، وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتبر مد حدث بعده ، وقال أبو حنيفة : يعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ولا يجزئه دون ذلك ، حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام ، ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية ، فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي ، فلا بد من حمله على أقل مالا بد منه ظاهرا ، وذلك هو المد ، حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت : « لكل مسكين نصف صاع من بر » وعن علي وعائشة قالا : لكل مسكين مدان من بر ، ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين ، فيكون نظير صدقة الفطر ، ولا يتأدى ذلك بالمد ، بل بما قلنا ، فكذلك هنا .
المسألة الحادية عشرة : لو أطعم مسكينا واحدا ستين مرة لا يجزئ عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يجزئ ، حجة الشافعي ظاهر الآية ، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا ، فوجب رعاية ظاهر الآية ، وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل ، وللشافعي أن يقول : التحكمات غالبة على هذه التقديرات ، فوجب الامتناع فيها من القياس ، وأيضا فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنسانا ، أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد .
المسألة الثانية عشرة : قال أصحاب الشافعي : إنه تعالى قال في الرقبة : { فمن لم يجد فصيام شهرين } وقال في الصوم : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } فذكر في الأول : { فمن لم يجد } وفي الثاني : { فمن لم يستطع } فقالوا : من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضا في الحال ، فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله ، قالوا : والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام : { فمن لم يستطع } وهو بسبب المرض الناجز ، والعجز العاجل غير مستطيع ، وقال في الرقبة : { فمن لم يجد } والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالا يشتري به رقبة ، ومن ماله غائب لا يسمى فاقدا للمال ، وأيضا يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره .
المسألة الثالثة عشرة : قال بعض أصحابنا : الشبق المفرط والغلمة الهائجة ، عذر في الانتقال إلى الإطعام ، والدليل عليه أنه عليه السلام " لما أمر الأعرابي بالصوم قال له : وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام أطعم " دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام ، وأيضا الاستطاعة فوق الوسع ، والوسع فوق الطاقة ، فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ، ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق ، فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية ، والله أعلم .
قوله تعالى : { ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير } قال الزجاج : { ذلكم } للتغليظ في الكفارة { توعظون به } أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه ، وقال غيره { ذلكم توعظون به } أي تؤمرون به من الكفارة { والله بما تعملون خبير } من التكفير وتركه .