غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (3)

1

قوله { ثم يعودون لما قالوا } قال الفراء : لا فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال وإلى ما قال وفيما قال . وقال أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان قال الله تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف :43 ] وقال { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات :23 ] وقال أهل اللغة : إذا قال قائل عاد لما فعل جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى وهذا ظاهر ، وجاز أن يريد أن نقض ما فعل لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعودة إليه ، وإلى هذا ذهب أكثر المجتهدين إلا أن الشافعي قال : معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق قعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك أنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق دل على أنه ندم على ما ابتدأه من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة . واعترض أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عليه من وجهين : الأول أنه تعالى قال { ثم يعودون } وكلمة " ثم " تقتضي التراخي . وعلى قول الشافعي يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وهذا خلاف مفهوم الآية . الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لما قال . وأجيب عن الأول بأنه يوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك . والتحقيق أن العبرة بالحكم ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بهذا القدر من الزمان وهذا يكفي في العمل بمقتضى كلمة " ثم " . وعن الثاني أن المراد إمساكها على سبيل الزوجية واللفظ محتمل لهذا وإمساك الأم بهذا الوجه محرم . وقال أبو حنيفة : معناه استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، وذلك أنه لام شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحتها كان مناقضاً لقوله " أنت عليّ كظهر أمي " . وقال مالك : العود إليها عبارة عن العزم على جماعها ، وضعف بأن العزم على جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة هو القصد إلى استحلال جماعها فيرجع إلى قول أبي حنيفة . ولا يرد عليه إلا أنه خص وجه التشبيه من غير دليل ، والذي ذكره الشافعي أعم وأقل ما يطلق عليه اسم العود فكان أولى . وعن طاوس والحسن أن العود إليها عبارة عن جماعها وخطئ لقوله { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وإذا كان التكفير قبل الجماع والتكفير لا يثبت إلا بعد العود فالعود غير الجماع . وأما الاحتمال الأول وهو أن العود لما فعل هو فعلة مرة أخرى ففيه أيضاً وجوه : الأول : قول الثوري : إن العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وزيف بأنه يرجع حاصل المعنى إلى قوله { والذين } كانوا { يظاهرون من نسائهم } في الجاهلية { ثم يعودون لما قالوا } في الإسلام { فكفارته } كذا وكذا وهذا إضمار من غير دليل مع أنه خلاف الأصل . الثاني قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فهو عود وإلا فلا . وضعف بحديث أوس وحديث سلمة بن صخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لزمهما الكفارة مع أنهما لم يكررا الظهار . الثالثة : قال أبو مسلم الأصفهاني : العود هو أن يحلف على ما قال أوّلاً من لفظ الظهار ، فإذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على ما لو قال في بعض الأطعمة " إنه حرام عليّ كلحم الآدمي " فإنه لا يلزمه الكفارة إلا إذا حلف عليه . ورد بأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين . وعندي أن هذا الرد مردود لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة في الصورتين من غير يمين وجوبها في كل صورة بلا يمين . نعم يرد على أبي مسلم أن تفسير العود بالحلف إثبات اللغة بالقياس ، ولا يخفى أن العود لما قالوا على هذا الاحتمال ظاهر لأنه أريد بالقول اللفظ ، وأما الاحتمال الآخر فيحتاج إلى تأويل القول بالمقول فيه وهو ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار كما مر في قوله { ونرثه ما يقول } [ مريم :81 ] أي المال والواو للحال .

مسائل : الأولى : الجديد وأبو حنيفة أن الظهار يحرم جميع جهات الاستمتاعات لأن قوله سبحانه { من قبل أن يتماسا } يعم جميع ضروب المس من المس بيد وغيرها . " وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال : اعتزلها حتى تكفِّر " الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال أبو حنيفة والشافعي : لكل ظهار كفّارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد . وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة . وحجتهما أنه تعالى رتب الكفّارة على التلفظ بكلمة الظهار والمعلول يتكرر بتكرر العلة ، ويتفرع عليه أنه لو كانت تحته أربع نسوة وقال لهن : أنتن عليّ كظهر أمي لزمه أربع كفارات لأن الحكم يتكرر ويتعدّد المحل ، حجته أنه رتب الكفارة على مطلق الظهار والمطلق شامل للمتعدد ، ونوقض باليمين فإن الكفارة لازمة في كل يمين . الثالثة : دلت على إيجاب الكفارة قبل التماس فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق ، لأن سلمة بن صخر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر . وقال بعضهم ومنهم عبد الرحمن بن مهدي : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان . الرابعة : لا ينبغي للمرأة أن تدع الزوج يقربها حتى يكفّر فإن تهاون حال الإمام بينهما ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع . قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها . الخامسة : قد ذكرنا أن الاستمتاعات محرمة عليه إلى أن يكفّر وذلك صريح في تحرير الرقبة وفي الصيام والآن نقول : إن التكفير بالإطعام أيضا كذلك وإن لم يتعرض للتماس في قوله { فإطعام ستين مسكينا } حملا للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة ، وللأقل وهو صورة واحدة على الأكثر وهذه من فصاحات القرآن . السادسة : مذهب أبي حنيفة أن هذه الرقبة تجزي وإن كانت كافرة لإطلاق الآية ، وقال الشافعي : لا بد أن تكون مؤمنة قياساً على كفارة القتل ، والجامع أن الإعتاق إنعام والمؤمن أولى به ، ولأن المشركين نجس وكل نجس خبيث بالإجماع ، وقال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث } [ البقرة :267 ] ولا تجزي أم الولد ولا المكاتب عند الشافعي لضعف الملكية فيه ولا يحصل الجزم بالخروج عن العهدة ، وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة لأنه رقبة بدليل قوله { وفي الرقاب } [ البقرة :177 ] وإن أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً لم يجز ، والمدبر يجزي عند الشافعي ولا يجزي عند أبي حنيفة . السابعة : يعتبر في الرقبة بعد الإيمان على خلاف فيه السلامة عن العيوب لا التي يثبت بها الرد في البيع ولكن التي تخل بالعمل والاكتساب لأن المقصود هناك المالية وهاهنا تكميل حاله ليتفرغ للعبادات والوظائف المخصوصة بالأحرار ، فلا يجزي مقطوع اليدين أو الرجلين أو إحداهما ولا المجنون ، ويجزي الأعور والأصم والأخرس ومقطوع الأذنين أو الأنف أو أصابع الرجلين لا أصابع اليد لأن البطش والعمل يتعلق بها . والعبد الغائب . إن انقطع خبره لا يجزي ولو أعتق بعده عن كفارته شرط أن يردّ ديناراًَ أو غيره لم يجز بل يجب أن يكون الإعتاق خالياً من شوائب العوض . الثامنة : كفارة الظهار مرتبة على ما في الآية . فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته فواجبه هو ، وإن احتاج إلى خدمته لمرض أو كبر أو لأن منصبه يأبى أن يخدم نفسه لم يكلف صرفه إلى الكفارة ، ولو وجد ثمن العبد فكالعبد . والشرط أن يفضل عن حاجة نفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم وعن المسكن وما لا بدّ له من الأثاث ولو كانت له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه ويفي ما يحصل منهما بكفايته بلا مزيد ولو باعهما لارتدّ إلى حد المساكين لم يكلف صرفه إلى الكفارة . ولو وجد ثمن العبد فكالعبد والشرط بيعها وإن كان ماله غائباً أو لم يجد الرقبة في الحال لم يجز العدول إلى الصوم بل يصبر ، وإن كان يتضرر بامتناع الابتياع لأنه تعالى قال { فمن لم يجد } وهو واجد . أما من كان مريضا في الحال ولا يقدر على الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام لأنه تعالى قال { فمن لم يستطع } وهو غير مستطيع ، والمآل غير معلوم ولا هو متعلق باختياره بخلاف إحضار المال أو تحصيل الرقبة فإن ذلك قد يمكنه . التاسعة : لو أطعم مسكينا واحدا ستين مرة لا يجزي عند الشافعي لظاهر الآية ، ولأن إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من رضا الله . وقال أبو حنيفة : يجزي . العاشرة : الشبق المفرط والغلمة عذر عند الأكثرين في الانتقال إلى الإطعام كما في قصة الأعرابي وهل أتيت إلا من قبل الصوم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أطعم . وحمله آخرون على خاصة الأعرابي . ولنكتفي بهذا القدر من المسائل الفقهية في تفسير آية الظهار . قال الزجاج { ذلكم توعظون } أي ذلك التغليظ وعظ لكم حتى تتركوا الظهار .

/خ22