الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (3)

فيه اثنتا عشرة مسألة :

الأولى- قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } هذا ابتداء والخبر " فتحرير رقبة " وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه ، أي فعليهم تحرير رقبة . وقيل : أي فكفارتهم عتق رقبة . والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } [ المجادلة : 2 ] فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته . فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار ، لقوله عز وجل : { والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود ، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة : الأول : أنه العزم على الوطء ، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه . وروي عن مالك : فإن عزم على وطئها كان عودا ، وإن لم يعزم لم يكن عودا . الثاني : العزم على الإمساك بعد التظاهر منها ، قاله مالك . الثالث : العزم عليهما . وهو قول مالك في موطئه ، قال مالك في قول الله عز وجل :{ والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } قال : سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها ، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة ، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه . قال مالك : وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر . القول الرابع : أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا ، قاله الحسن ومالك أيضا . الخامس : وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، لأنه لما ظاهر قصد التحريم ، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه . وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة . السادس : أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة . ومعنى العود عند القائلين بهذا : أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد . السابع هو تكرير الظهار بلفظه . وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس ، قالوا : إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود ، وإن لم يكرر فليس بعود . ويسند ذلك إلى بكير بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا ، وهو قول الفراء .

وقال أبو العالية : وظاهر الآية يشهد له ، لأنه قال : " ثم يعودون لما قالوا " أي إلى قول ما قالوا . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل : " والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي ، فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار . قال ابن العربي : فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير ، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه . وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، وأيضا فإن المعنى ينقضه ؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور ، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة ، وهذا لا يعقل ، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره .

قلت : قوله يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه ، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم ، وأما قول الشافعي : بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات : الأول : أنه قال : " ثم " وهذا بظاهره يقتضي التراخي . الثاني : أن قوله تعالى : " ثم يعودون " يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه . الثالث : أن قوله تعالى : " ثم يعودون " على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء . فإن قيل : فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح . وهذه عمدة أهل ما وراء النهر . قلنا : إذا عزم على خلاف ما قال ورآها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله .

وتحقيق هذا القول : أن العزم قول نفسي ، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح ، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار ، ثم عاد لما قال وهو التحليل ، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد ؛ لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي ، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله ، لقول : " من قبل أن يتماسا " . وهذا تفسير بالغ في فنه{[14755]} .

الثانية- قال بعض أهل التأويل : الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى " والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون " إلى ما كانوا عليه من الجماع " فتحرير رقبة " لما قالوا ، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا ، فالجار في قوله : " لما قالوا " متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم ، قاله الأخفش . وقال الزجاج : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا . وقيل : المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة . الفراء : اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء . وقال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا واحد ، واللام وإلى يتعاقبان ، قال : " الحمد لله الذي هدانا لهذا{[14756]} " [ الأعراف : 43 ] وقال : " فاهدوهم إلى صراط الجحيم{[14757]} " [ الصافات : 23 ] وقال : " بأن ربك أوحى لها{[14758]} " [ الزلزلة : 5 ] وقال : " وأوحي إلى نوح{[14759]} " [ هود : 36 ] .

الثالثة- قوله تعالى : " فتحرير رقبة " أي فعليه إعتاق رقبة ، يقال : حررته أي جعلته حرا . ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب ، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي ، كالرقبة في كفارة القتل . وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبةُ{[14760]} رق كالمكاتبة وغيرها .

الرابعة- فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة . وقال الشافعي يجزئ ؛ لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد ، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام ، ودليلنا قوله تعالى : " فتحرير رقبة " وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس برقبة ، وليس ذلك مما يدخله التلفيق ؛ لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها ، أصله إذا اشترك رجلان في أضحيتين ، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا ، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين ، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم . والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا .

الخامسة- قوله تعالى : " من قبل أن يتماسا " أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير ، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير . وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى . وعن غيره : أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا ، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس ، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها . والصحيح ثبوت الكفارة ، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها . وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة{[14761]} . وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام . وقال أبو حنيفة : إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء . وقاله الحسن وسفيان ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي . وقيل : وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي . وقد تقدم .

السادسة- قوله تعالى : " ذلكم توعظون به " أي تؤمرون به " والله بما تعملون خبير " من التكفير وغيره .


[14755]:الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي.
[14756]:راجع جـ 7 ص 208.
[14757]:راجع جـ 15 ص 83.
[14758]:راجع جـ 20 ص 149.
[14759]:راجع جـ 9 ص 29.
[14760]:في ح، ز، س، ط، ل: "شعبة رق" والمعنى واحد.
[14761]:لم يتقدم العود في حديث أوس، وإنما هو في مظاهر آخر وهو القائل: رأيت خلخالها في ضوء القمر.