الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (3)

ثم قال : { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة . ووجه آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه . ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أي : تداركه بالإصلاح . والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار . ووجه ثالث : وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ويكون المعنى : ثم يريدون العود للتماس . والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها لشهوة { ذَلِكُمْ } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه .

فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ . ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أمّ امرأتي أو بنتها ، فهو مظاهر . وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه . وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وغيرهم نحوه . وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها وهو قول قتادة والشعبي . وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات ؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات . وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهاراً .

فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه ؟ قلت : لها ذلك . وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر ، وأن يحبسه ؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها .

فإن قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر ؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى : أن سلمة بن صخر البياض قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : « استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر » .

فإن قلت : أي رقبة تجزىء في كفارة الظهار ؟ قلت : المسلمة والكافرة جميعاً ، لأنها في الآية مطلقة . وعند الشافعي لا تجزي إلا المؤمنة . لقوله تعالى في كفارة القتل : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئاً ، فإن لم يؤدّ شيئاً جاز . وعند الشافعي : لا يجوز .