المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

118- وتفضل - سبحانه - بالعفو عن الرجال الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج في غزوة تبوك - لا عن نفاق منهم - وكان أمرهم مرجأ إلى أن يبين اللَّه حكمه فيهم ، فلما كانت توبتهم خالصة ، وندمهم شديدا ؛ حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها ، وضاقت عليهم نفوسهم هما وحزنا ، وعلموا أنه لا ملجأ من غضب اللَّه إلا باستغفاره والرجوع إليه ، حينئذ هداهم اللَّه إلى التوبة ، وعفا عنهم ، ليظلوا عليها ، إن اللَّه كثير القبول لتوبة التائبين ، عظيم الرحمة بعباده .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

{ و } كذلك لقد تاب الله { عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } عن الخروج مع المسلمين ، في تلك الغزوة ، وهم : " كعب بن مالك " وصاحباه ، وقصتهم مشهورة معروفة ، في الصحاح والسنن .

{ حَتَّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما ، و { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : على سعتها ورحبها { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } التي هي أحب إليهم من كل شيء ، فضاق عليهم الفضاء الواسع ، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه ، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج ، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه ، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء .

{ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ } أي : تيقنوا وعرفوا بحالهم ، أنه لا ينجي من الشدائد ، ويلجأ إليه ، إلا اللّه وحده لا شريك له ، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ، وتعلقوا باللّه ربهم ، وفروا منه إليه ، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة .

{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي : أذن في توبتهم ووفقهم لها { لِيَتُوبُوا } أي : لتقع منهم ، فيتوب اللّه عليهم ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } أي : كثير التوبة والعفو ، والغفران عن الزلات والعصيان ، { الرَّحِيمِ } وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين ، في جميع اللحظات ، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية .

وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات ، وأعلى النهايات ، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده ، وامتن عليهم بها ، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها .

ومنها : لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة .

ومنها : أن العبادة الشاقة على النفس ، لها فضل ومزية ليست لغيرها ، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر .

ومنها : أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد ، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله ، فإن توبته مدخولة ، وإن زعم أنها مقبولة .

ومنها : أن علامة الخير وزوال الشدة ، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما ، وانقطع عن المخلوقين .

ومنها : أن من لطف اللّه بالثلاثة ، أن وسمهم بوسم ، ليس بعار عليهم فقال : { خُلِّفُوا } إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم ، [ أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم ، أو في رده ]{[387]}  وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير ، ولهذا لم يقل : " تخلفوا " .

ومنها : أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق ، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال :


[387]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

111

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )

حديث كعب بن مالك عن المخلفين الثلاثة

هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم . ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكاً ولا نفاقاً ، إنما قعدوا كسلاً واسترواحاً للظلال في المدينة . وهؤلاء جماعتان ؛ جماعة قضي في أمرهم من قبل ، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، واعترفوا بذنوبهم ، وجماعة أخرى : ( مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم وإما يتوب عليهم )وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا ، أي تركوا بلا حكم . وأرجئوا حتى يحكم اللّه فيهم . وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق . .

وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئاً في تفسير النص المصور لحالهم ؛ وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزة التي رسمها التعبير لهم ولحالهم ، ندع أحدهم يتحدث عما كان . . هو كعب بن مالك - رضي اللّه عنه - : أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك أن عبد اللّه بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك ، قال كعب : لم أتخلف عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، إنما خرج رسول اللّه - [ ص ] - المسلمون يريدون عير قريش حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

ولقد شهدت مع رسول اللّه [ ص ] ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول اللّه [ ص ] في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، واللّهما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ؛ وكان رسول اللّه [ ص ] قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول اللّه [ ص ] في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدواً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم بوجههم الذي يريد ، والمسلمون مع رسول اللّه [ ص ] كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - .

قال كعب رضي اللّه عنه : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من اللّه عز وجل . وغزا رسول اللّه [ ص ] تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصغو ، فتجهز إليها رسول اللّه [ ص ] والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً ، فأقول لنفسي : قادر على ذلك إن أردت . فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول اللّه [ ص ] غادياً والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئاً ، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت ؛ ثم لم يقدر لي ذلك ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه [ ص ] يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر اللّه . ولم يذكرني رسول اللّه [ ص ] حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب بن مالك " ? فقال رجل من بني سلمة : يا رسول اللّه حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت ، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عنه إلا خيراً .

فسكت رسول اللّه [ ص ] .

قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول اللّه [ ص ] توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً ? وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل : إن رسول اللّه [ ص ] قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول اللّه [ ص ] قادماً ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له . وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً ؛ فقبل رسول اللّه [ ص ] منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ؛ حتى جئت ؛ فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ? ألم تكن قد اشتريت ظهرك ? " فقلت يا رسول اللّه ، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلاً ، ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه ، وإني لأرجو فيه عقبى من اللّه . واللّه ما كان لي عذر ، واللّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ! فقال [ ص ] : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي اللّه فيك " فقمت . وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي : واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه [ ص ] بما اعتذر به المتخلفون ، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللّه [ ص ] . قال : فواللّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه [ ص ] فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ? قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما ? قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي

قال : ونهى رسول اللّه [ ص ] الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما . وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول اللّه [ ص ] فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ? ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه . فواللّه ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى . هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ? قال فسكت ، قال فعدت فنشدته فسكت ؛ فعدت فنشدته . قال : اللّه ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .

وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب ابن مالك ? فطفق الناس يشيرون له إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فقرأته فإذا فيه :

أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء . فتيممت بها التنور فسجرتها . . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول اللّه [ ص ] يأتيني فقال : إن رسول اللّه - [ ص ] - يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ? قال : بل اعتزلها ولا تقربنها . وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللّه في هذا الأمر . فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللّه [ ص ] فقالت : يا رسول اللّه ، إن هلالاً شيخ ضائغ ، وليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ? قال " لا ، ولكن لا يقربنك " فقالت : إنه واللّه ما به من حركة إلى شيء ، وواللّه ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول اللّه [ ص ] في امرأتك ! فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . فقلت : واللّه لا أستأذن فيها رسول اللّه - [ ص ] - وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .

قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا . قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً ؛ وعرفت أن قد جاء الفرج ؛ فآذن رسول اللّه [ ص ] بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر . فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إليَّ رجل فرساً وسعى ساع من أسلم قِبلي ، وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته ، واللّه ما أملك غيرهما يومئذ ؛ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول اللّه - [ ص ] - يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون :

ليهنك توبة اللّه عليك . حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللّه - [ ص ] - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إليّ طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، واللّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب رضي اللّه عنه لا ينساها لطلحة .

قال كعب رضي اللّه عنه : فلما سلمت على رسول اللّه [ ص ] قال وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قلت : أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه ? قال : " لا بل من عند اللّه " وكان رسول اللّه - [ ص ] - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول اللّه ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ ص ] ، قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى ، واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا كذباً ، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي . وأنزل اللّه : لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين .

قال كعب : فواللّه ما أنعم اللّه علي من نعمة قط بعد أن هداني اللّه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه - [ ص ] - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه . فإن اللّه قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال ( سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس - إلى قوله - الفاسقين ) .

هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا - كما رواها أحدهم كعب بن مالك - وفي كل فقرة منها عبرة ، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ، ومتانة بنائها ، وصفاء عناصرها ، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة ، ولتكاليف الدعوة ، ولقيمة الأوامر ، ولضرورة الطاعة .

فهذا كعب بن مالك - وزميلاه - يتخلفون عن ركب رسول اللّه - [ ص ] - في ساعة العسرة . يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة ، فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب . ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - أن يحس ما فعل ، يشعره به كل ما حوله : " فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر اللّه " - يعني بمن عذر اللّه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون .

فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول اللّه - [ ص ] - الى الغزوة البعيدة الشقة . لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق ، وإلا العاجزون الذين عذرهم اللّه . أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة ، وأصلب عوداً من الشدة . .

هذه واحدة . والثانية هي التقوى . التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار . والأمر بعد ذلك للّه : " فقلت : يا رسول اللّه ، واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلاً . ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي . ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من اللّه . واللّه ما كان لي عذر . واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك " .

فاللّه حاضر في ضمير المؤمن المخطئ . ومع حرصه البالغ على رضى رسول اللّه - [ ص ] -وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان - مع هذا فإن مراقبة اللّه أقوى وتقوى اللّه أعمق ؛ والرجاء في اللّه أوثق .

" ونهى رسول اللّه - [ ص ] - الناس عن كلامنا . أيها الثلاثة . من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس - أو قال : تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ؛ وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم . فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد . وآتي رسول اللّه - [ ص ] - فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ? ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فواللّه ما رد علي السلام . فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى . هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ? قال : فسكت . قال : فعدت فنشدته فسكت ، فعدت فنشدته . قال : " اللّه ورسوله أعلم " . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " . .

هكذا كان الضبط ، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة - على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة - . . نهى رسول اللّه [ ص ] عن كلامنا أيها الثلاثة . فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة ، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس ، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي . حتى ابن عمه وأحب الناس إليه ، وقد تسور عليه داره ، لا يرد عليه السلام ، ولا يجيبه عن سؤال . فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه ، إنما قال : " اللّه ورسوله أعلم " .

وكعب في لهفته - وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف - يتلمس حركة من بين شفتي الرسول - [ ص ] - ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول اللّه قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها ، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة ، ولم يكتب له الذبول والجفاف !

وبينما هو طريد شريد ، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة - ولو على سبيل الصدقة - يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه . . ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله ، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار ، ويعد هذا بقية من البلاء ، ويصبر على الابتلاء .

وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه . لتدعه فريدا طريدا من الأنس كله ، مخلفاً بين الأرض والسماء . فيخجل أن يراجع رسول اللّه - [ ص ] - في امرأته ، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب .

هذه صفحة . والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى . بشرى القبول . بشرى العودة إلى الصف . بشرى التوبة من الذنب . بشرى البعث والعودة إلى الحياة . . " فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا . قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى َ على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج . فآذن رسول اللّه - [ ص ] - بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرساً ، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس . فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته . واللّه ما أملك غيرهما يومئذ ، فاستعرت ثوبين فلبستهما ، فانطلقت أؤم رسول اللّه - [ ص ] - يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ، ويقولون : ليهنك توبة اللّه عليك . حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه - [ ص ] - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، واللّه ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره . قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة " . .

هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة . وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم ؛ كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها ، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة . وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه ، فهو في يوم كما قال عنه رسول اللّه - [ ص ] - : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قالها - [ ص ] - وهو يبرق وجهه من السرور ، كما قال كعب ، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل اللّه توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته .

تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب اللّه عليهم ، وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية ، وعلى القيم التي كانت تعيش بها .

والقصة كما رواها أحد أصحابها ، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية :

( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه . . ) . .

( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) . . فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها . إن هي إلا بالقيم السائدة فيها . إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها . فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني ، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين ، وتتقاصر أطرافها ، وتنكمش رقعتها ، فهم منها في حرج وضيق .

( وضاقت عليهم أنفسهم ) . .

فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم ، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم .

( وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ) . .

وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد ، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات . ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق ، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب . .

ثم يجيء الفرج . . ( ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم ) .

تاب عليهم من هذا الذنب الخاص ، ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى ، ولينيبوا إلى اللّه إنابة كاملة في كل ما سيأتي . ومصداق هذا في قول كعب : قلت : يا رسول اللّه ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله . قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قال فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول اللّه إنما نجاني اللّه بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال : فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى . واللّه ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه عز وجل فيما بقي .

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا - في ظلال القرآن - مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها . فحسبنا هنا ما وفق اللّه إليه فيها .