السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

وقوله تعالى :

{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } أي : عن غزوة تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، وفائدة هذا العطف بيان قبول توبتهم ، وهذه الثلاثة كلهم من الأنصار وهم المذكورون في قوله تعالى : { وآخرون مرجون لأمر الله } ( التوبة ، 106 ) .

روي عن ابن شهاب الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : وكان أعلم قومه وأوعاهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب : كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فأخبرهم بوجهه الذي يريد فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا فهممت أن أرتحل وأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك وكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : «ما فعل كعب ؟ » فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في معطفيه فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيراً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب : فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً حضرني همي وطفقت أذكر الكذب وأقول بمَ أخرج به من سخطه غداً واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادماً راح عني الباطل وعرفت إني لم أخرج بشيء أبداً فيه كذب وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس وجاءه المخلفون يتعذرون إليه ويحلفون له وكانوا تسعة وثمانين رجلاً فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم الغضبان ثم قال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : «ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ » قلت : بلى يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطك بعذر ولقد أعطيت جزلاً ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديت كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا وقد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لهم : هل أتى هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ففيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس ولبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أثبت القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمّ لي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما ردّ عليّ السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنبطيّ من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه يقول : من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان فإذا فيه : أما بعد فقد بلغني أنّ صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوا ن ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك فقلت حين قرأته : وهذا أيضاً من البلاء فيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر قال كعب : فجاءت امرأة هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : إنّ هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم هل تكره أن أخدمه ؟ فقال : اخدميه ولكن لا يقربك قالت : والله إنه ما به حركة إلى شيء والله لا يزال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك لأذن لك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى في قوله : { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي : مع رحبها أي : سعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه { وضاقت عليهم أنفسهم } أي : قلوبهم بالغم والوحشة أي : بتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس { وظنوا } أي : أيقنوا { أن } مخففة { لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم } أي : وفقهم للتوبة { ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم } إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع ينادي بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجداً وعرفت أنه جاء فرج وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون ورجل رحل إلي فرساً وسعى ساع من أسلم فأوفى إلى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ وكسوته إياهما والله ما أملك غيرهما يومئذٍ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤونني بالتوبة ويقولون : ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني رضي الله تعالى عنه والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك ) ثم تلا علينا الآية ، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .