بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } ، يعني : وتاب على الثلاثة ، وهم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية . قال الفقيه : سمعت أبي رحمه الله يذكر بإسناده ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها ، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً ، فلم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر ، إنَّما خرج يريد العير فخرجت قريش معينين لعيرهم ، فالتقوا على غير موعد . ثم لم أتخلف عن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها ، فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم ، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار ، وكان كل ما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها ، وكان يقول : «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ » ، فأراد في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم ، وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين ، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال ، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار .

فلم أزل كذلك ، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غازياً بالغداة ، وذلك يوم الخميس . وكان يحب أن يخرج الناس يوم الخميس ، فأصبح غادياً ، فقلت : انطلق غادياً إلى السوق غداً فأشتري ثم ألحق بهم ، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني ، فرجعت فقلت : أرجع غداً إن شاء الله . فألحق بهم ، فعسر عليّ بعض شأني فلم أزل كذلك ، حتى التبس بي الريب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة ، فيحزنني أن لا أرى أحداً تخلف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق . وكان الجميع من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وثمانين رجلاً ، ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال : " فَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ " فقال رجل من قومي : خلفه يا رسول الله حسن برديه والنظر إلى عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت يا هذا ، والله يا نبي الله ما نعلم منه إلاَّ خيراً .

فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ، وقفل ودنا من المدينة ، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ذي رأي من أهلي ، حتى إذا أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلاَّ بالصدق . ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى ، فصلى في المسجد ركعتين . وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك ، فدخل المسجد وصلى ركعتين ، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه ، ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى .

فدخلت المسجد ، فإذا هو جالس فلما رآني تبسَّم تبسُّم المُغضب ، فجئت فجلست بين يديه . فقال : « أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ » فقلت بلى يا نبي الله . فقال : « ما خَلَّفَكَ » فقلت : والله لو أني بين أحد من الناس غيرك جلست ، فخرجت من سخطه عليّ بعذر ، ولقد أوتيت جَدَلاً ، ولكني قد علمت يا رسول الله أني لو أخبرتك اليوم بما تجد عليّ فيه وهو حق ، فإني أرجو فيه عفو الله ، وإن حدثتك حديثاً ترضى علي فيه وهو كذب ، أوشك الله أن يطلعك عليّ . والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حالاً حين تخلفت عنك . قال : « أمَّا هذا فَقَدْ صَدَقَكُمْ الحَدِيثَ قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ » . فقمت فسار على أثري ناس من قومي يؤنبونني وقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا ، فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يرضى عنك ، فكان استغفاره سيأتي من وراء ذلك ولم تقف نفسك موقفاً لا تدري ما يقضى لك فيه .

فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ، فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري ؟ قالوا : نعم فقلت : من هو ؟ فقالوا : هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة ، فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ، ولا أكذب نفسي . قال : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا الثلاثة . قال : فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد ، وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرفهم ، وتنكرت لنا الأرض ، حتى ما هي بالتي نعرف .

وكنت أقوى أصحابي ، فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وأقول : هل حرك شفتيه بالسلام . فإذا قمت أصلي إلى سارية ، فأقبلت على صلاتي ، نظر إلي بمؤخر عينيه ، فإذا نظرت إليه ، أعرض عني . واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ، ولا يطلعان رؤوسهما فبينما أنا أطوف بالسوق ، إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول : من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون إليّ ، فأتاني وأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها : أما بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولست بدار مضيقة ولا هوان ، فالحق بنا نواسيك . فقلت : هذا أيضاً من البلاء ، يعني : الدعوة إلى الكفرَ فسجَّرْت لها التنور فأحرقتها فيه .

فلما مضت أربعون ليلة ، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال : « اعْتَزِل امْرَأَتَكَ » . فقلت : أطلقها ؟ فقال : « لا ، ولكن لا تَقْرَبْهَا » . فجاءت امرأة هلال بن أمية ، فقالت : يا نبي الله إن هلالاً شيخ ضعيف ، فهل تأذن لي أن أخدمه ؟ قال :

« نَعَمْ ، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ » . فقالت : يا نبي الله ، والله ما به حركة من شيءٍ ، ما زال مكباً يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان . قال كعب : فلما طال علي البلاء ، اقتحمت على أبي قتادة حائطه ، وهو ابن عمي ، فسلمت عليه فلم يرد عليّ جواباً ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسولهُ ؟ فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ حتى عاودته ثلاث مرات قال : الله ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت ، ثم اقتحمت الحائط خارجاً .

حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا ، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى : { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } إذ سمعت نداء من ذروة سلع اسم جبل أن أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً ، وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج . ثم جاء رجل يركب على فرس ، يركض يبشرني ، فكان الصوت أسرع من فرسه ، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين ، وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وجعل الأنصار يستقبلونني فوجاً فوجاً ويهنئونني ويبشرونني . ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله ، قام وتلقاني بالتهنئة ، فما نسيت ذلك منه .

وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سُرَّ بالأمر ، استنار وجهه كالقمر ، فجئت فجلست بين يديه فقال : « أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ » . فقلت : يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله ؟ قال : « بل من عند الله » قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار } إلى قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } الآية . فقلت : يا نبي الله ، إن من توبتي ألا أحدث إلاَّ صدقاً ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله . قال : « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » . قال : فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي ، ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا . وإني لأرجو ألا يكون الله أبلى أحداً في الصدق كما أبلاني ما تعمدت لكذبة قط وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي .

وروى الزهري عن كعب بن مالك قال : كانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلثا الليل ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله ألا نبشر كعباً بن مالك ؟ قال :

« إذاً يَحْطِمَنَّكُمْ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ » . وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، تحزن بأمري وذلك قوله تعالى : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } يعني : وتاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك . ويقال { وَعَلَى الثلاثة الذين تخلفوا } عن التوبة ، يعني : أبا لبابة { خُلّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } ، يعني : بسعتها ، { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } ، يعني : ضاقت قلوبهم ، { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله } ، يعني : علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب الله { إِلاَّ إِلَيْهِ } ، يعني : إلا بالتوبة إليه { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ، يعني : يتجاوز عنهم حتى تابوا ويقال : أكرمهم فوفقهم للتوبة كي يتوبوا . ويقال : تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم . { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } ، يعني : المتجاوز لمن تاب ، الرحيم بهم بعد التوبة .