ثم قال : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }[ 118 ] .
أي : وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفوا ، فلم يفعلوا فعل أبي لبابة وأصحابه ، إذ ربطوا أنفسهم في السواري ، وقالوا : لا نطعم ولا نًحُل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يحلنا بتوبة من الله{[30166]} والثلاثة هم الآخرون{[30167]} الذين أرجأ أمرهم المؤمنون ، فقال قوم : هلكوا ، وقال قوم : عسى الله أن يتوب عليهم{[30168]} .
قال عكرمة وقتادة : خُلِّفوا عن التوبة{[30169]} .
وقرأ{[30170]} عكرمة : " خَلَفوا " {[30171]} أي : أقاموا بِعقب{[30172]} رسول الله صلى الله عليه وسلم{[30173]} .
قال محمد{[30174]} بن عرفة{[30175]} نفطويه : خلفوا عن أن يكونوا{[30176]} منافقين ، ويعتذروا فيعذروا ؛ لأنهم صدقوا ، ولم يأتوا بعذر كذب{[30177]} .
وقرأ جعفر بن محمد{[30178]} : " خالفوا " {[30179]} .
قوله : { حتى ضاقت عليهم الارض بما رحبت }[ 118 ] .
أي : بسعتها{[30180]} ، غما منهم وندما على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وضاقت عليهم أنفسهم }[ 118 ] .
أي : بما نالهم من الكرب { وظنوا أن لا{[30181]} ملجأ }[ 118 ] ، أي : أيقنوا أنه لا ملجأ من الله ، أي : لا مهرب ، ولا مستغاث منه ، { إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا } ، أي : لينيبوا إليه ، ويرجعوا إلى طاعته ، { إن الله هو التواب الرحيم }[ 118 ] ، أي : هو الوهاب لعباده الإنابة إليه ، { الرحيم } ، بهم ، أن يعاقبهم بعد التوبة على ما سلف منهم قبل/{[30182]} التوبة{[30183]} .
والثلاثة هم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومُرارة بن ربيعة ، كلهم من الأنصار{[30184]} .
وفي رواية : مُرارة بن الربيع{[30185]} .
وفي أخرى{[30186]} : مُرارة بن ربعي{[30187]} .
وقال ابن جبير : ربيعة بن مرارة ، وهلال بن أمية ، وكعب بن مالك{[30188]} .
وكان قد تخلف عن رسول الله عليه السلام ، في غزوة تبوك بضع وثمانون{[30189]} رجلا ، فلما رجع أتاه قوم ، منهم الثلاثة الذين ذكروا في الآية ، فصدقوه{[30190]} حديثهم واعترفوا بذنوبهم ، وأتاه الباقون ، فكذبوا وحلفوا واعتذروا ، فوكل أمرهم إلى الله عز وجل ، وقال لأولئك الذين صدقوا : قُوما حتى يقضي{[30191]} الله فيكم ، فنزل القرآن بتوبتهم ، فقال : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ، الآية ، [ 103 ] ، وقال : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } الآية{[30192]} .
قال كعب بن مالك : أتى{[30193]} ، المخلفون فاعتذروا ، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، عز وجل ، وجئت إليه فرأيته يبتسم تبسم المُغضب ، ثم قال تعالى{[30194]} ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، وكنت لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حضرني بثي{[30195]} على التخلف ، فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بما أخرج من سخطه غدا ؟ فلما قدم النبي عليه السلام ، زال عني الباطل حين عرفت أني لم أنج{[30196]} منه بشيء أبدا ، فلما جلست بين يديه ، قال لي : ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت{[30197]} ظهرك ؟ قال : فقلت : يا رسول الله والله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا{[30198]} .
ولكني والله لقد علمت أني لئن{[30199]} حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخط علي ، ولئن حدثتك حديث صدق ، وتجد{[30200]} علي فيه ، إني لأرجو عفو الله ، والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر{[30201]} مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك . فقمت ، وفعل رجلان{[30202]} مثل ما فعلت ، وكانا قد شهدا بدرا ، فكان لي فيهم أُسوة{[30203]} . وأخذ الناس يقولون : ألا اعتذرت كما اعتذر غيرك ، ثم تستغفر{[30204]} لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزالوا بي{[30205]} ( حتى ) كدت أرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأُكذب نفسي . ثم نهى رسول الله{[30206]} صلى الله عليه وسلم ، عن كلامنا الثلاثة من بين من تخلف عنه . فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت{[30207]} إلى نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكنا{[30208]} وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما{[30209]} أنا فكنت أَشَبَّ القوم وأجلَدهم ، فكنت أخرج فأشهد{[30210]} الصلاة ، وأطوف الأسواق ، ولا يكلمني{[30211]} أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في مجلسه ، فأسلم عليه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام ؟ ثم أفكر في غيره{[30212]} ، ثم أبكي قريبا{[30213]} منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، ثم أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باعتزال أهلي عند تمام أربعين ليلة في حديث طويل .
فلم يزل حتى نزلت توبته بعد خمسين ليلة مع توبة صاحبيه .
[30166]:انظر: تفسير قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} فيما سلف.
[30167]:في المخطوطتين: الأخسرون، وهو تحريف، وصوابه من جامع البيان 14/543.
[30168]:انظر: تفسير قوله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} فيما سلف.
[30170]:في المخطوطتين: وقال، وهو تحريف.
وعكرمة ليس هو عكرمة مولى ابن عباس المفسر المعروف، إنما هو: عكرمة بن خالد بن العاص، أبو خالد المخزومي المكي، تابعي ثقة، حجة، مترجم في غاية النهاية 1/515، وتقريب التهذيب 336.
[30171]:بفتح الخاء واللام المخففة، مختصر في شواذ القرآن 60، وزاد نسبتها إلى زر بن حُبيش، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/305، وزاد "وزر بن حبيش، وعمرو بن عبيد، ورويت عن أبي عمرو". والمحرر الوجيز 3/94، وزاد عزوها للمذكورين في المحتسب، وزاد المسير 3/512، 513، وزاد نسبتها إلى معاذ القارئ وحميد وتفسير القرطبي 8/179، والبحر المحيط 5/112، وعزاها أيضا إلى زر بن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القارئ، وحميد.
[30172]:في المصباح عقب: "...وخلف فلان بعقبي أي: أقام بعدي، وعقبت زيدا عقبا من باب: قتل، وعقوبا إذا جئتَ بعده، ومنه سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، العاقب، لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء أي: جاء بعدهم".
[30174]:كذا في المخطوطتين واسم نفطويه: إبراهيم بن محمد بن عرفة، أبو عبد الله، وقد سلفت ترجمته.
[30176]:في الأصل: يكون وهو سهو ناسخ.
[30177]:لم أقف عليه فيما لدي من مصادر.
[30178]:هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله المدني، توفي سنة 148هـ. انظر: غاية النهاية 1/196.
[30179]:مختصر في شواذ القرآن 60، وزاد عزوها إلى علي، والسُّلمي، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/305، 306، وزاد نسبتها إلى أبي جعفر محمد بن علي، وعلي بن الحسين، وأبي عبد الرحمن السُّلمي، والمحرر الوجيز 3/94، وعزاها أيضا إلى المذكورين في المحتسب، تفسير القرطبي 8/179.
قال أبو حيان في البحر 5/112،: "وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه: زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق "خالفوا" بألف، أي لم يوافقوا على الغزو".
[30182]:في الأصل: بعد، وهو سبق قلم، لأن في التعقيبة: قبل.
[30183]:جامع البيان 14/543، 544 باختصار.
[30184]:سلف ذكرهم في تفسير قوله تعالى: {وآخرون مرجون}[107].
[30185]:وهي مروية عن جابر في جامع البيان 14/455.
[30186]:في الأصل: آخر، وهو سبق قلم.
[30187]:وهي من رواية مجاهد في جامع البيان 14465، 466، و: 545، ومجمع بن جارية في الدر المنثور 4/309.
قال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه، جامع البيان 14/466: "مُرارة بن ربعي، هكذا جاء في المخطوطة في هذا الخبر، وفي الذي يليه. وصححه في المطبوعة: مُرارة بن الربيع، ثم جاء في رقم 17183 في المخطوطة: مُرارة بن ربيعة، وكلاهما غير المشهور المعروف في كتب تراجم الصحابة، والكتب الصحاح، فهو فيها جميعا: مُرارة بن الربيع الأنصاري، من بني عمرو بن عوف.
وأما مرارة بن ربعي بن عدي بن يزيد بن جشم، فلم يذكره غير ابن الكلبي، وقال: كان أحد البكائين".
[30188]:جامع البيان 14/545، وفيه: ومرارة بن الربيع. ولم أجد فيما لدي من مصادر من ذكر ربيعة بن مُرارة.
[30189]:في "ر": وثمانين، وهو خطأ ناسخ.
[30190]:في الأصل: فصدقوا، وفي "ر": فصدقوه بحديثهم.
[30192]:انظر: جامع البيان 14/547، 548.
[30194]:في المخطوطتين: تعالى، وهو تحريف.
[30195]:البث: الحزن. من باب ردّ. المختار/بثت.
[30196]:في المخطوطتين: لم الحق. وفي جامع البيان 14/550، لن أنجو وما أثبته مطابق لما في تفسير ابن كثير 2/397، والدر المنثور 4/311.
[30197]:في الأصل: اتبعك، وهو تحريف. وفي "ر": اتبعت، وهو تصحيف. وصوابه من جامع البيان 14/551.
[30198]:جدل الرجل جدلا فهو جدِل، من باب: تعب، إذا اشتدت خصومته. المصباح/جدل.
[30199]:في الأصل: وليو، وهو تحريف ناسخ لم يحسن قراءة أصله.
[30200]:من وجد عليه موجدة: غضب. المصباح/وجد.
[30201]:في الأصل: ولا يسر، وهو سهو ناسخ.
[30202]:وهما: مُرارة بن ربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، كما في جامع البيان 14/551.
[30203]:الأسوة، بكسر الهمزة وضمها لغتان: وهو ما يأتسي به الحزين يتعزى به. المختار/أسا.
[30205]:في الأصل: لي، وهو تحريف ناسخ. وما بين الهلالين ساقط من "ر".
[30207]:في "ر": تنكدت، بالدال المهملة.
[30208]:كذا في المخطوطتين. وفي جامع البيان 14/552، وتفسير ابن كثير 2/398، والدر المنثور 4/312، فاستكانا. واستكنا: استترا. والكن: السترة. وكنّ الشيء: ستره وصانه من الشمس. وبابه رد. المختار/كنن.
[30209]:في الأصل: وما أنا، وهو سهو ناسخ.
[30210]:في المخطوطتين: فأشهده، وهو سبق قلم.
[30211]:في المخطوطتين: فأشهده، وهو سبق قلم.
[30212]:في الأصل: وغيره، وهو تحريف.
[30213]:في الأصل: قريب وهو خطأ ناسخ.
انظر: بأطول من هذا في جامع البيان 14/547-556، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1899-1903، وتفسير البغوي 4/105-108، وتفسير ابن كثير 2/396-398، والدر المنثور 4/310-314.
وأخرجه البخاري في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، وقول الله عز وجل {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} رقم 4106، ومسلم في التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم 2769.