التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

قوله تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم 118 يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } .

الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك هم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ؛ فقد خلفوا عن ركب المجاهدين بقتادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ قصد تبوك لقتال الروم . ولم يكن تخلف هؤلاء الثلاثة عن عجز او افتقار أو مرض ؛ بل كانوا أقوياء أصحاء ، ولم يثنهم عن المضي للجهاد في تبوك إلا ما أصابهم من نوبة الضعف وفتور العزيمة وفتور العزيمة في هذه المناسبة العظيمة التي اشتد فيها سعير الحر اللاهب . واستعر فيها هجير المفاوز والفيافي من أيام الصيف الحرور ، واستقبل فيها الناس عدوا كبيرا مدججا بالعدة والسلاح مما لم يشهدوا له من قبل نظيرا ، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغزوة حين طابت الثمار وحان جنيها وقطافها ؛ كل ذلك قد حمل فريقا من الناس على التثاقل ، فانثنوا عن الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان في المتخلفين منافقون لا يترددون في الهروب والتخلص من فريضة الجهاد بكل أسلوب من أساليب الكذب والمراوغة والنفاق . ومن جملة الذين تخلفوا ، هؤلاء الثلاثة الذين لم يساور قلوبهم شك في دين الله ولا في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقعدهم عن ذلك إلا ما طرأ لهم في هذه الفترة العصيبة العسيرة من نوبة الضعف العارض .

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك طفق المتخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى . أما الثلاثة –وكانوا من المؤمنين الصالحين- فقد وجدوا في أنفسهم أشد موجدة وأصابهم من فرط الكآبة الممضة ما بات يقض مضاجعهم قضا ويؤز قلوبهم وأعصابهم وأزا طيلة خمسين يوما . وفي ذلك يقول كعب بن مالك : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنا فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهم يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ؛ فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد . حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائك أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام . قال : ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي الشام قد دفع إلي كتابا من ملك غسان وفيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان . ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأته : وهذا أيضا من الابتلاء . قال : فتيممت به التنور فسجرته به فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كرمنا . قال : ثم صليت الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا . فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا على بجل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك . قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر . وأنزل الله تعالى الآية . ومنها قوله : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } { وعلى الثلاثة } ، معطوف على { النبي } أي وتاب على الثلاثة { الذين خلفوا } أي تخلفوا عن غزوة تبوك { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي باتت الأرض برحبها وسعتها ضيقة في نظرهم وتصورهم فسدت عليهم المسالك والطرق فلا يعتدون سبيلا ، ولا يدرون ما يصنعون . وذلك لإعراض الناس عنهم وهجرهم لهم خمسين ليلة بأيامها { وضاقت علليهم أنفسهم } وذلك كناية عن تراكم الهم والحزن على قلوبهم فلا تحتمل غير الكآبة والاغتمام . فكان ضيقهم بذلك على نحوين ، وهما ضيق المحل وضيق النفس والحال .

قوله : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } أي علموا وأيقنوا أنه ليس لهم من سبيل ولا ملجأ يأوون إليه من سخط الله إلا أن يثوبوا إليه وحده ، فيبرءوا له بالتوبة والاستغفار وهو سبحانه خير ملاذ للمكروبين والمغلوبين والتائبين .

إن الله جلت قدرته خير من تجأر إليه قلوب الداعين والمستغفرين والتائبين الخزانى عسى أن يتوب عليهم ويفيض على قلوبهم بخواطر الرضى والبهجة والانشراح .

قوله : { ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } أي قبل توبتهم من تخلفهم عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليتوبوا } أي ليرجعوا إلى حالهم الأول من مخالطة المؤمنين فتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم مع الساكنين والمطمئنين ، أو ليتوبوا مم يفرط منهم في المستقبل من خطايا وذنوب . فإن الله تعالى قابل التوب عن عباده المؤمنين ولو عادوا إلى الذنب في اليوم مائة مرة . فذلك هو شأن الله في عظيم توبته ولطفه بالعباد وفي مبلغ رحمته بهم . رحمته الواسعة المديدة التي لا تعرف الحدود .