تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

بما رحبت : بما وسعت على اتساعها .

ظنوا : معناها هنا اعتقدوا .

لقد تفضلّ الله تعالى بالعفو عن الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج للجهاد في غزوة تبوك ولم يكن تخلّفهم عن نفاق . وهو يعلم أنهم مؤمنون صادقون . لذا كانت توبتهم خالصة ، وندمهم شديدا حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على سَعَتها ، وضاقت عليهم نفوسُهم همّاً وحزنا . لقد علموا أنه لا ملجأ من غضب الله إلا بالرجوع إليه ، وحينئذ هداهم إلى التوبة ، وعفا عنهم ، فهو التواب الرحيم .

والثلاثة الذين خلفوا هم : كعب بن مالك وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وجميعهم من الأنصار . وكان كعب بن مالك من أكابر الشعراء ومن الصحابة الصادقين وأحد المنافحين عن النبي الكريم بشِعره . وقد روى البخاري ومسلم قصته بالتفصيل . قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ غزاها إلا في بدرٍ وتبوك ، والرسول لم يعاتب أحدا تخلف عن غزوة بدر .

وكنت وقتَ غزوة تبوك في حالة جيدة من المال والصحة ، عندي راحلتان . وقد بقيت أغدو وأروح لأتجهّز فلم أوفَّق ، وظللت أتعلل بأني قادر وسوف أتبعُهم . ولما رجع رسول الله عن الغزوة وجلس للناس جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله . فجئته أنا ، فلما سلَمت عليه تبسَّم تبسُّم المغضَب ، ثم قال لي : ما خلّفك ؟ ألم تكن قد ابْتَعتَ ظهرك ؟ فقلت : بلى ، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أُعطيتُ جدلا ، ولكني والله قد علمت لئن حدّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني ، ليوشكنّ اللهُ أن يُسخِطَك علي ، ولئن حدثتك حديثَ صدق تجد عليَّ فيه ، إني لأرجو فيه عفو الله . لا والله ما كان لي من عذر . . فقال رسول الله : أما هذا فقد صَدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ، فقمت .

وكذلك فعل صاحباه فصدَقا رسول الله . وكان الثلاثة من الصحابة المرموقين فآثروا الصدق وفاء لدِينهم ، وخوفا من أن يفضح الله كذبهم . وسمع النبي منهم وأعلن أنهم قد صدقوه ، ولم يعفُ عنهم مع ذلك ، بل ترك أمرهم إلى الله . وأمرَ المؤمنين أن لا يكلّموهم .

وينظر هؤلاء الثلاثة فإذا هم في عزلة بغيضة إلى نفوسهم ، السجنُ أهون منها .

يقول كعب : فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا نبطيُّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلّ على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له ، حتى إذا جاءني ، رفع إليَّ كتاباً من ملك غسَان ، فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدارٍ هوان ولا مَضْيَعة ، فالحقْ بنا نُواسِك ، فقلت لما قرأتها : وهذا أيضاً من البلاء ، فأحرقت الكتاب .

وبعد أن مضت أربعون ليلة أرسل إليهم النبي أن يعتزلوا نساءهم . وبعد أن مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة ، كان الندم قد أخذ من قلوبهم أقوى مأخذ ، فأنزل الله توبته عليهم في هاتين الآيتين الكريمتين ، وقد ابتهج المؤمنون كلهم لذلك ، فكانوا يهنئونهم بذلك .

يقول كعب : لما بلَغني النبأ انطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد حوله المسلمون . فقام إليَّ طلحةُ بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال : لِتَهْنِكَ توبة الله ، فلن أنساها لطلحة . وقال رسول الله وهو يستنير استنارة القمر : أبشِر يا كعب بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتْك أُمك . ثم تلا علينا الآية . . .

وفي هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم ، وتفيض عبراتهم .

قراءات :

قرأ حمزة وحفص : «يزيغ » بالياء ، والباقون تزيغ بالتاء .