80- ومع ذلك جادله قومه في توحيد الله ، وخوفوه غضب آلهتهم ، فقال لهم : ما كان لكم أن تجادلوني في توحيد الله وقد هداني إلى الحق ، ولا أخاف غضب آلهتكم التي تشركونها مع الله ، لكن إذا شاء ربي شيئاً من الضر وقع ذلك ، لأنه - وحده - القادر ، وقد أحاط علم ربي بالأشياء كلها ، ولا علم لآلهتكم بشيء منها . أتغفلون عن كل ذلك فلا تدركون أن العاجز الجاهل لا يستحق أن يعبد ؟ !
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أيُّ فائدة لمحاجة من{[297]} لم يتبين له الهدى ؟ فأما من هداه الله ، ووصل إلى أعلى درجات اليقين ، فإنه –هو بنفسه- يدعو الناس إلى ما هو عليه .
{ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } فإنها لن تضرني ، ولن تمنع عني من النفع شيئا . { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَآجّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجّوَنّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام وكان جدالهم إياه قولهم : إن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه . قالَ إبراهيم : أتُحاجّونِي فِي اللّهِ يقول : أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة ، وَقَدْ هَدَانِ يقول : وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته ، وبصّرني طريق الحقّ حتى ألِفْتُ أن لا شيء يستحقّ أن يُعْبد سواه . ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ يقول : ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئا ينالني في نفسي من سوء ومكروه وذَلك أنهم قالوا له : إنا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من بَرَص أو خَبْل ، لذكرك إياها بسوء فقال لهم إبراهيم : لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الاَلهة أن تنالني بضرّ ولا مكروه ، لأنها لا تنفع ولا تَضرّ إلاّ أنْ يَشاءَ رَبي شَيْئا يقول : ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض ، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاء أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك نالني به ، لأنه القادر على ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَحاجّهُ قَوْمُهُ قال أتُحاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ قال : دعا قومه مع الله آلهة ، وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبه منها خبل ، فقال إبراهيم : أتُحاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ قال : قد عرفت ربي ، لا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ .
وَسِعَ رَبي كُلّ شَيْءٍ عِلْما يقول : وعلم ربي كلّ شيء فلا يخفى عليه شيء ، لأنه خالق كلّ شيء ، وليس كالاَلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئا ، وإنما هي خشبة منحوتة وصورة ممثّلة . أفَلا تَتَذَكّرُونَ يقول : أفلا تعتبرون أيها الجهلة فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكم صورة مصوّرة وخشبة منحوتة ، لا تقدر على ضرّ ولا على نفع ولا تفقه شيئا ولا تعقله ، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كلّ شيء ، وبيده الخير وله القدرة على كلّ شيء والعالم لكلّ شيء .
لمّا أعلن إبراهيم عليه السلام معتَقَده لقومه أخذوا في محاجّته ، فجملة { وحاجَّة } عطف على جملة { إنِّي وجَّهْتُ وجهِي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] . وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلَّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام .
والمحاجَّة مفاعلة متصرّفة من الحُجَّة ، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى . ولا يعرف لهذه المفاعلة فعْل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة ، وإنَّما المعروف فِعْل حَجّ إذا غَلب في الحُجَّة ، فإن كانت احتجاجاً من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل ، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغَلَب في الحجَّة لا بدّ أن يتلقَّى من خصمه ما يرُدّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين ، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجَّة ، أو المفاعلة فيه للمبالغة . والأوْلى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجَّة بينهم وبين إبراهيم .
وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره : أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها فاعلاً هو البادىء بالمحاجَّة ، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة [ البقرة : 258 ] { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيمَ في ربِّه } حيث قال : { إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] . فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجَّة . ولم يذكر أئمَّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة . ويجوز أن يكون المراد هنا أنَّهم سلكوا معه طريق الحجَّة على صحَّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع ، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجَّة . وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلَّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ . وحذف متعلّق { حاجّة } لدلالة المقام ، ودلالة ما بعده عليه من قوله : { أتحاجّوني في الله } الآيات .
وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن ، منها قوله في سورة [ الأنبياء : 52 56 ] { إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } إلى قوله { وأنا على ذلكم من الشاهدين } ، وقوله في سورة [ الشعراء : 72 ، 73 ] { قال هل يَسْمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضُرّون الآيات } وفي سورة [ الصافات : 85 98 ] { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون إلى قوله فجعلناهم الأسفلين } وكلّها محاجَّة حقيقيّة ، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجَّة ولكنَّه ممّا يرونه حججاً بأن خوّفُوه غضب آلهتهم ، كما يدلّ عليه قوله : { ولا أخاف ما تشركون به } الآية . والتقدير : وحاجّه قومه فقالوا : كيت وكيت .
وجملة { قال أتحاجّوني في الله } جوابُ محاجَّتهم ، ولذلك فصلت ، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة [ البقرة : 30 ] ، فإن كانت المحاجَّة على حقيقة المفاعلة فقوله أتحاجّوني } غلق لباب المجادلة وخَتْم لها ، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله : { أتحاجّوني } جواب لمحاجّتهم ، فيكون كقوله تعالى :
{ فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] . والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم .
و { في } للظرفية المجازية متعلّقة ب { تحاجّوني } ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف ، لأنّ المحاجَّة لا تكون في الذّوات ، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالَّة على أنَّه واحد ، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى : { يُجَادلُنا في قوم لُوط } [ هود : 74 ] أي في استئصالهم .
وجملة { وقد هدانِ } حال مؤكَّدة للإنكار ، أي لا جدوى لمحاجَّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفاً عند المخاطب . فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلةَ من يعلم أنّ الله هَداه كناية على ظهور دلائل الهداية .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { أتحاجّوني } بنون واحدة خفيفة وأصله أتحاجّونني بنونين فحذفت إحداهما للتخفيف ، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي . قال : لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفاً ، كما قالوا : ليْتِي في لَيْتَنِي . وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحْمِل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة ، وأيَّاً ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف . وعن أبي عمرو بن العلاء : أنّ هذه القراءة لحن ، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطىء في زعمه ، أو أخْطَأ من عزاه إليه . وقرأه البقية بتشديد النّون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضاً ، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين ، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاءُ هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حَدّه .
وحذفت ياء المتكلّم في قوله { وقد هدانِ } للتخفيف وصلاً ووقفاً في قراءة نافع من رواية قالون ، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة . وقد تقدّم في قوله تعالى : { أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .
وقوله : { ولا أخاف ما تشركون به } معطوف على { أتحاجّوني } فتكون إخباراً ، أو على جملة { وقد هَدَانِ } فتكون تأكيداً للإنكار . وتأكيدُ الإنكار بها أظهر منه لقوله { وقد هدانِ } لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه . فقومُه إمَّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم ، كما تقدّم في قوله : { وقد هدَانِ } وهو يؤذن بأنَّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسَّهم إيَّاه بسوء ، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجَّتهم إيَّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم ، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم ، فتعيَّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم . ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود { إنْ نقول إلاّ اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] .
و ( ما ] من قوله : { ما تشركون به } موصولة ماصْدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة . والضمير في قوله { به } يجوز أن يكون عائداً على اسم الجلالة فتكون الباء لتعدية فعل { تشركون } ، وأن يكون عائداً إلى ( ما ) الموصولة فتكون الباء سببية ، أي الأصنام التي بسببها أشركتم .
وقوله : { إلاّ أن يشاء ربِّي شيئاً } استثناء ممّا قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعاً بمعنى لكنْ . وهو ظاهر كلام الطبري ، وهو الأظهر فإنَّه لمّا نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهَّم منه السّامعون أنَّه لا يخاف شيئاً استدرك عليه بما دلّ عليه الاستثناءُ المنقطع ، أي لكن أخاف مشيئة ربِّي شيئاً ممَّا أخافه ، فذلك أخافُه . وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنَّه يخشى ربَّه المستحقّ للخشية إن كان قومه لا يعترفون بربّ غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدّمين .
وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متّصلاً مفرّغاً عن مستثنى منه محذوف دلّ عليه الكلام ، فقدّره الزمخشري من أوقات ، أي لا أخاف ما تشركون به أبداً ، لأنّ الفعل المضارع المنفي يتعلّق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنَّه كالنَّكرة المنفية ، أي إلاّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً أخافه من شركائكم ، أي بأنْ يسَلّط ربِّي بعضها عليّ فذلك من قدرة ربِّي بواسطتها لا من قدرتها عليّ . وجوّز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالاً عامّة ، أي إلاّ حالَ مشيئة ربِّي شيئاً أخافه منها .
وجملة : { وسع ربِّي كلّ شيء علما } استئناف بياني لأنَّه قد يختلج في نفوسهم : كيف يشاء ربّك شيئاً تخافه وأنت تزعم أنَّك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلاّ شكّ في أمرك ، فلذلك فُصلت ، أي إنَّما لم آمن إرادة الله بي ضُرّا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنَّه أعلم بحكمة إلحاق الضرّ . أو النفع بمن يشاء من عباده . وهذا مقام أدب مع الله تعالى { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] .
وجملة { أفلا تتذكَّرون } معطوفة على جملة { أتحاجّوني في الله وقد هَدانِ } . وقُدّمت همزة الاستفهام على فاء العطف .
والاستفهام إنكار لعدم تذّكرهم مع وضوح دلائل التذكّر . والمراد التذكّر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية ، وفي صفات الإله الحقّ التي دلَّت عليها مصنوعاته .