هذه السورة مكية ، ماعدا الآية 38 والآيات التي تبدأ من 83 إلى 101 ففيها عشرون آية مدنية ، وقد ابتدأت بحمد الله تعالى لإنزاله القرآن الكريم ، وبيان أن القرآن هو الإنذار والتبشير ، وفيه إنذار الذين ادعوا أن لله ولدا ، وفيها ذكر حرص النبي صلى اله عليه وسلم على إيمان الذين يدعوهم بدعاية الله . ثم ذكر قصة أهل الكهف الذين رقدوا ثم بعثوا بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، وهم عدد من أهل الكتاب فروا من ظلم الحاكم الروماني ، ورقدوا في الكهف تلك المدة ثم بعثوا للدلالة على قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت .
ثم بعد ذلك أمره الله عز وجل بأن يتلو القرآن ، وينذر به ويبشر ، ثم بيان حال أهل الجنة فيها وأهل النار ، وضرب الله عز وجل مثلا لرجلين أحدهما غني يعتز بماله وبنيه ، والثاني يعتز بالله ، وبين سبحانه أن ولايته هي الحق ، ثم بين سبحانه زينة الحياة الدنيا الفانية ، ثم ما يكون يوم القيامة من نعيم مقيم أو عذاب أليم . ثم ذكر سبحانه قصة موسى مع العبد الصالح الذي أوتي علما من الله . وفي هذه القصة يصور ما يجهله الإنسان ، ولو كان نبيا مرسلا من أولي العزم من الرسل ، من قدرة الله عز وجل إلا إذا آتاه الله علمه . ثم يجيء ذكر ذي القرنين ووصوله إلى أقصى الشرق وبنائه للسد ، ثم يوم القيامة وما يكون فيه ، وجزاء المؤمنين ، وعلم الله تعالى وكلماته التي لا تنفذ وختمت السورة ببيان الطريق لإرضائه سبحانه .
1- الثناء الجميل مستحق لله تعالى الذي أنزل على عبده محمد صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن ، ولم يجعل فيه شيئاً من الانحراف عن الصواب ، بل كان فيه الحق الذي لا ريب فيه .
{ 1-6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا *مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }
الحمد لله هو الثناء عليه بصفاته ، التي هي كلها صفات كمال ، وبنعمه الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، وأجل نعمه على الإطلاق ، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله ، محمد صلى الله عليه وسلم فحمد نفسه ، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم ، وإنزال الكتاب عليهم ، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين ، على أنه الكامل من جميع الوجوه ، وهما نفي العوج عنه ، وإثبات أنه قيم{[481]} مستقيم ، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب ، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث ، وإثبات الاستقامة ، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات وهي الأخبار ، التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا ، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة ، وأن أوامره ونواهيه ، تزكي النفوس ، وتطهرها وتنميها وتكملها ، لاشتمالها على كمال العدل والقسط ، والإخلاص ، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له . وحقيق بكتاب موصوف . بما ذكر ، أن يحمد الله نفسه على إنزاله ، وأن يتمدح إلى عباده به .
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خصّ برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه ، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلاً ، وأنزل عليه كتابه قيما ، ولم يجعل له عِوَجا .
وعُنِي بقوله عزّ ذكره : قَيّما معتدلاً مستقيما . وقيل : عُنِي به : أنه قيم على سائر الكتب يصدّقها ويحفظها . ذكر من قال : عني به معتدلاً مستقيما :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما يقول : أنزل الكتاب عَدلاً قيما ، ولم يجعل له عِوَجا ، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله ، ولم يجعل له عوجا ، ومعناه التقديم بمعنى : أنزل الكتاب على عبده قَيّما .
حُدثت عن محمد بن زيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله قَيّما قال : مستقيما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوْجا قَيّما : أي معتدلاً لا اختلاف فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَيّما قال : أنزل الله الكتاب قيما ، ولم يجعل له عِوَجا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَوَجا قَيّما .
قال : وفي بعض القراءات : «وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيّما » .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله ابن عباس ، ومن قال بقوله في ذلك ، لدلالة قوله : ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنزل الكتاب الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم قَيّما مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، بل بعضه يصدق بعضا ، وبعضه يشهد لبعض ، لا عِوَج فيه ، ولا ميل عن الحقّ ، وكُسرت العين من قوله عَوِجا لأن العرب كذلك تقول في كلّ اعوجاج كان في دين ، أو فيما لا يُرَى شخصه قائما ، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين ، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع ، وكذلك العِوَج في الطريق ، لأنه ليس بالشخص المنتصب . فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما ، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة ، والخشبة ، ونحوها . وكان ابن عباس يقول في معنى قوله ولَمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا : ولم يجعل له ملتبسا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ولَمَ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما ولم يجعل له ملتبسا .
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله قَيّما وإن كان مؤخرا ، التقديم إلى جنب الكتاب . وقيل : إنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة ، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير ، وأمروهم بمسألتهموه عنها ، وقالوا : إن أخبركم بها فهو نبيّ ، وإن لم يخبركم بها فهو منقوّل ، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا ، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء ، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم ، فتحدّث المشركون بأنه أخلفهم موعدَه ، وأنه متقوّل ، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم ، وافتتح أوّلها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدّثوها بينهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فيما يروي أبو جعفر الطبري قال : بعثت قريش النضْر بن الحارث ، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصِفُوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأوّل ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قَدِما المدينة ، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فَرَوْا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طَوّاف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك ، فإنه نبيّ فاتّبعوه ، وإن هو لم يخبركم ، فهو رجلّ متقوّل ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش ، فقالا : يا معشر قريش : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نَسأله ، عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُخْبِرُكُمْ غَدا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ » ، ولم يستثن فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحَدِث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعَدَنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه . وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه ، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف ، وقول الله عزّ وجلّ وَيَسألُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً قال ابن إسحاق : فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال الحَمْدِ لِلّهِ الّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما : أي معتدلاً ، لا اختلاف فيه .
سورة الكهف وقيل إلا قوله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } الآية وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } يعني القرآن ، رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد . { ولم يجعل له عوجا } شيئا من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى ، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان .
سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الكهف .
روى مسلم ، وأبو داود ، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وفي رواية لمسلم : من آخر الكهف ، عصم من فتنة الدجال . ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وكذلك وردت تسميتها عن البراء بن عازب في صحيح البخاري . قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو ، وتدنو ، وجعل فرسه ينفر ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : تلك السكينة تنزلت بالقرآن .
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها سورة أصحاب الكهف .
وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية . قال : وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله { جرزا } نزل بالمدينة ، قال : والأول أصح .
وقيل قوله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } الآيتين نزلتا بالمدينة ، وقيل قوله { أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } إلى آخر السورة نزل بالمدينة . وكل ذلك ضعيف كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه .
نزلت بعد سورة الغاشية وقبل سورة الشورى .
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد .
وقد ورد في فضلها أحاديث متفاوتة أصحها الأحاديث المتقدمة وهي من السور التي نزلت جملة واحدة . روى الديلمي في سند الفردوس عن أنس قال : نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة . وقد أغفل هذا صاحب الإتقان .
وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمسا ، وفي عدد قراء الشام مائة وستا ، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة ، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشرا ، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين .
وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين ، وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند ، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول : أن المشركين لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وازدياد المسلمين معه وكثر تساؤل الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته ، بعثوا النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة يثرب يسألونهم رأيهم في دعوته ، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه . قالوا : فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء أي صفاتهم وعلاماتهم علم ليس عندنا ، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة ووصفا لليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراهم ببعض قوله . فقال لهم أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث? فإن أخبركم بهن فهو نبئ وإن لم يفعل فالرجل متقول ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وسلوه عن الروح ما هي . فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود ، فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن هذه الثلاثة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم عنه غدا وهو ينتظر وقت نزول الوحي عليه بحسب عادة يعلمها . ولم يقل : إن شاء الله . فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه ، وقال ابن إسحاق : خمسة عشر يوما ، فأرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، حتى أحزن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بسورة الكهف وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف ، وعن الرجل الطواف وهو ذو القرنين . وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } في سورة الإسراء . قال السهيلي : وفي رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي أي زياد ابن عبد الله البكائي الذي يروي عنه ابن هشام أنه قال في هذا الخبر : فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو أي الروح جبريل . وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش : سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبئ وإن لم يخبركم به فهو نبي اهـ .
وأقول : قد يجمع بين الروايتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى { قل الروح من أمر ربي } بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به وهو الروح الذي تكرر ذكره في القرآن مثل قوله { نزل به الروح } الأمين وقوله { والروح فيها } وهو من ألقاب جبريل على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود ، لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى { قل من كان عدوا لجبريل } الآية . ووضحه حديث عبد الله ابن سلام في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر جبريل عليه السلام ذاك عدو اليهود من الملائكة فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم لهم منفذا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم .
وقد يعترضك هنا : أن الآية التي نزلت في أمر الروح هي من سورة الإسراء فلم تكن مقارنة للآية النازلة في شان الفنية وشأن الرجل الطواف فماذا فرق بين الآيتين ، وأن سورة الإسراء يروي أنها نزلت قبل سورة الكهف فإنها معدودة سادسة وخمسين في عداد نزول السور ، وسورة الكهف معدودة ثامنة وستين في النزول . وقد يجاب عن هذا بأن آية الروح قد تكون نزلت على أن تلحق بسورة الإسراء فإنها نزلت في أسلوب سورة الإسراء وعلى مثل فواصلها ، ولأن الجواب فيها جواب بتفويض العلم إلى الله ، وهو مقام يقتضي الإيجاز ، بخلاف الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين فإنه يستدعي بسطا وإطنابا ففرقت آية الروح عن القصتين .
على أنه يجوز أن يكون نزول سورة الإسراء مستمرا إلى وقت نزول سورة الكهف ، فأنزل قرآن موزع عليها وعلى سورة الكهف . وهذا على أحد تأويلين في معنى كون الروح من أمر ربي كما تقدم في سورة الإسراء . والذي عليه جمهور الرواة أن آية { ويسألونك عن الروح } مكية إلا ما روي عن ابن مسعود . وقد علمت تأويله في سورة الإسراء .
فاتضح من هذا أن أهم غرض نزلت فيه سورة الكهف هو بيان قصة أصحاب الكهف ، وقصة ذي القرنين . وقد ذكرت أولاهما في أول السورة وذكرت الأخرى في آخرها .
كرامة قرآنية : لوضع هذه السورة على هذا الترتيب في المصحف مناسبة حسنة ألهم الله إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رتبوا المصحف فإنها تقارب نصف المصحف إذ كان في أوائلها موضع قيل هو نصف حروف القرآن وهو التاء من قوله تعالى { لقد جئت شيئا نكرا } في أثنائها ، وهو نهاية خمسة عشر جزءا من أجزاء القرآن وذلك نصف أجزائه ، وهو قوله تعالى { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } ، فجعلت هذه السورة في مكان قرابة نصف المصحف .
وهي مفتتحة بالحمد حتى يكون افتتاح النصف الثاني من القرآن ب{ الحمد لله } كما كان افتتاح النصف الأول ب{ الحمد لله } . وكما كان أول الربع الرابع منه تقريبا ب{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض } .
افتتحت بالتحميد على إنزال الكتاب للتنويه بالقرآن تطاولا من الله تعالى على المشركين وملقنيهم من أهل الكتاب .
وأدمج فيه إنذار المعاندين الذين نسبوا لله ولدا ، وبشارة للمؤمنين ، وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أقوالهم حين تريث الوحي لما اقتضته سنة الله مع أوليائه من إظهار عتبه على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة .
وذكر افتتان المشركين بالحياة الدنيا وزينتها وأنها لا تكسب النفوس تزكية .
وانتقل إلى خبر أصحاب الكهف المسؤول عنه .
وحذرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم ليكونوا على حذر من كيده .
وقدم لقصة ذي القرنين قصة أهم منها وهي قصة موسى والخضر عليهما السلام ، لأن كلتا القصتين تشابهتا في السفر لغرض شريف . فذو القرنين خرج لبسط سلطانه على الأرض ، وموسى عليه السلام خرج في طلب العلم .
وفي ذكر قصة موسى تعريض بأحبار بني إسرائيل إذ تهمموا بخبر ملك من غير قومهم ولا من أهل دينهم ونسوا خبرا من سيرة نبيهم .
وتخلل ذلك مستطردات من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته . وأن الحق فيما أخبر به ، وأن أصحابه الملازمين له خير من صناديد المشركين ، ومن الوعد والوعيد ، وتمثيل المؤمن والكافر ، وتمثيل الحياة الدنيا وانقضائها ، وما يعقبها من البعث والحشر ، والتذكير بعواقب الأمم الدنيا وانقضائها ، وما يعقبها من البعث والحشر ، والتذكير بعواقب الأمم المكذبة للرسل ، وما ختمت به من إبطال الشرك ووعيد أهله ؛ ووعد المؤمنين بضدهم ، والتمثيل لسعة علم الله تعالى . وختمت بتقرير أن القرآن وحي من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان في هذا الختام محسن رد العجز على الصدر .
موقع الافتتاح بهذا التحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم .
ولما كان إنزال القرآن على النبي أجزل نَعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية ، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس ، ونعمة على النبي بأن جعله واسطة ذلك ومبلَغه ومبينه ؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخباراً وإنشاءً . وقد تقدم إفادة جملة { الحمد لله } استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة .
وهي هنا جملة خبرية ، أخبر الله نبيئَه والمسلمين بأن مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره ، فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويهاً بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] .
والكتاب : القرآن . فكل مقدار منزل من القرآن فهو { الكتاب } . فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة ، ويلحق به ما ينزل بعد هذه الآية ويزاد به مقداره .
وجملة { ولم يجعل له عوجاً } معترضة بين { الكتاب } وبين الحال منه وهو { قيماً } . والواو اعتراضية . ويجوز كون الجملة حالاً والواو حالية .
والعِوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته : انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم ، فهو ضد الاستقامة . ويطلق مجازاً على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة .
والذي عليه المحققون من أيمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي . وقيل : المكسورُ العيننِ يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في « الكشاف » . ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال { فيذرها قاعاً صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً } [ طه : 106 107 ] حيث اتفق القراء على قراءته بكسر العين . وعن ابن السكيت : أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي .
والمراد بالعِوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد .
والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم : افتراه ، وأساطير الأولين ، وقول كاهن ، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] .
وضمير { له } عائد إلى { الكتاب } .
وإنما عدي الجعل باللام دون ( في ) لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام ، وأما معنى الاختصاص فهو أعم .
فالمعنى : أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف . وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به ، فهذا كوصفه ب { أنه لا ريب فيه } في سورة البقرة ( 2 ) .