سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين . روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله " جرزا " [ الكهف : 8 ] ، والأول أصح . وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال : من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر . وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك ) . قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال : ( سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال ) ذكره الثعلبي ، والمهدوي أيضا بمعناه . وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق . وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) . وفي رواية ( من آخر الكهف ) . وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان ( فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ) . وذكره الثعلبي . قال : سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حِفْظًا لم تضره فتنة الدجال ) . ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة .
قوله تعالى :{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما }
ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفَا لهم صفته وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل{[10408]} فالرجل متقول ، فَرَوْا فيه رأيكم ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ، فإنه قد كان لهم حديث عجب . سلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ، ما هي ؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرَوْا فيه رأيكم . فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أخبركم بما سألتم عنه غدا ) ولم يستثن{[10409]} . فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف{[10410]} أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح . قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : ( لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا " فقال له جبريل : " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " {[10411]} [ مريم : 64 ] .
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده ، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال : " الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب " يعني محمدا ، إنك رسول مني ، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك . " ولم يجعل له عوجا قيما " أي معتدلا لا اختلاف فيه . " لينذر بأسا شديدا من لدنه " أي عاجل عقوبته في الدنيا ، وعذابا أليما في الآخرة ، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا . " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا " أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال . " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " [ الكهف : 4 ] بعني قريشا في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله . " ما لهم به من علم ولا لآبائهم " [ الكهف : 5 ] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم . " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " [ الكهف : 5 ] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله . " إن يقولون إلا كذبا . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " [ الكهف : 6 ] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل . قال ابن هشام : " باخع نفسك " مهلك نفسك ؛ فيما حدثني أبو عبيدة . قال ذو الرمة :
ألا أيُّهذا البَاخعُ الوَجْدُ نفسه *** بشيء نَحَتْهُ عن يديهِ المقَادِرُ
وجمعها باخعون وبخعه . وهذا البيت في قصيدة{[10412]} له . وقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له . " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " [ الكهف : 7 ] قال ابن إسحاق : أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي : " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " [ الكهف : 8 ] أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله ، فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها . قال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد . قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا :
كأنه بالضُّحى ترمي الصعيد به *** دَبَّابَةٌ في عظامِ الرأسِ خُرْطُوم{[10413]}
وهذا البيت في قصيدة له{[10414]} . والصعيد أيضا : الطريق ، وقد جاء في الحديث : ( إياكم والقعود على الصعدات ) يريد الطرق . والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها أجراز . ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر . وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة . قال ذو الرمة يصف إبلا :
طَوَى النحز والإجراز ما في بطونها *** فما بقيت إلا الضلوع الجراشِع{[10415]}
قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " [ الكهف : 9 ] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك . قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم . قال العجاج :
ومُسْتَقَرِّ المصحف المُرَقَّمِ
وهذا البيت في أرجوزة{[10416]} له . قال ابن إسحاق : ثم قال " إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا . ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " [ الكهف : 12 ] . ثم قال : " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " [ الكهف : 13 ] أي بصدق الخبر " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى . وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " [ الكهف : 14 ] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم . قال ابن هشام : والشطط الغلو ومجاوزة الحق . قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتنتهون ولا يَنْهَى ذوي شطط *** كالطعن يذهبُ فيه الزيت والفُتُلُ
وهذا البيت في قصيدة له{[10417]} . قال ابن إسحاق : " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين " [ الكهف : 15 ] . قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا . وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا . وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه " [ الكهف : 17 ] . قال ابن هشام : تزاور تميل ، وهو من الزور . وقال أبو الزحف الكليبي{[10418]} يصف بلدا :
جَدْب{[10419]} المُنَدَّى عن هوانا أزْوَرُ *** يُنْضِي المطايا خِمْسَهُ العَشَنْزَرُ
وهذان البيتان{[10420]} في أرجوزة له . و " تقرضهم ذات الشمال " تجاوزهم وتتركهم عن شمالها . قال ذو الرمة :
إلى ظُعُنٍ يقرضن أقواز مشرفٍ *** شِمالاً وعن أيمانهن الفوارس{[10421]}
وهذا البيت في قصيدة له{[10422]} . والفجوة : السعة ، وجمعها الفِجاء . قال الشاعر :
ألبستَ قومك مَخْزاة ومنقصةً *** حتى أبيحُوا وحَلُّوا فجوة الدار
" ذلك من آيات الله " أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم . " من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " [ الكهف : ] قال ابن هشام : الوصيد الباب . قال العبسي واسمه عبد بن وهب :{[10423]}
بأرض فلاةٍ لا يسد وَصِيدُهَا *** عليّ ومعروفي بها غير منكرِ
وهذا البيت في أبيات له . والوصيد أيضا الفناء ، وجمعه وصائد ووصد وصدان . " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم " [ الكهف : ] أهل السلطان والملك منهم . " لنتخذن عليهم مسجدا . سيقولون " [ الكهف :21 ] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم . " ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم " [ أي لا تكابرهم . " إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " [ الكهف :22 ] فإنهم لا علم لهم بهم . " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا . إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا " [ الكهف :24 ] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا ، واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك . " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا " [ الكهف : ] أي سيقولون ذلك . " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا " [ الكهف :26 ] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه .
قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه{[10424]} . ويأتي خبر ذي القرنين ، ثم نعود إلى أول السورة فنقول :
قد تقدم معنى الحمد لله . وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا . و " قيما " نصب على الحال . وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما . وقول الضحاك فيه حسن ، وأن المعنى : مستقيم{[10425]} ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض . وقيل : " قيما " على الكتب السابقة يصدقها . وقيل : " قيما " بالحجج أبدا . " عوجا " مفعول به ، والعوج ( بكسر العين ) في الدين والرأي والأمر والطريق . وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ، وقد تقدم{[10426]} . وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضا مختلقا ، كما قال تعالى : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " {[10427]} [ النساء :82 ] وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذي عوج " {[10428]} [ الزمر :28 ] قال : غير مخلوق . وقال مقاتل : " عوجا " اختلافا . قال الشاعر :
أدوم بودِّي للصديق تكرُّمًا *** ولا خير فيمن كان في الود أعْوَجَا
" لينذر بأسا شديدا " أي لينذر محمد أو القرآن . وفيه إضمار ، أي لينذر الكافرين عقاب الله . وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة . " من لدنه " أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم " من لدنه " بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، والهاء موصولة بياء . والباقون " لدنه " بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء . قال الجوهري : وفي " لدن " ثلاث لغات : لدن ، ولدي ، ولد . وقال :
من لدُ لِحْيَيْهِ إلى مُنْحُورِهِ{[10429]}
قوله تعالى : " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم " أي بأن لهم " أجرا حسنا " وهي الجنة . " ماكثين " دائمين . " فيه أبدا " لا إلى غاية . وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في " بأن " . والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة .