تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ} (1)

مقدمة السورة:

دروس من سورة الكهف

سورة مكية

المشهور بين العلماء أن سورة الكهف مكية كلها ، وأنها من السور التي نزلت جملة واحدة كما جاء في الخبر الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( نزلت سورة الكهف جملة ) .

وقد روى ذلك أيضا عن بعض الصحابة واختاره الداني ، ومشى عليه أكثر أهل التفسير والمتكلمين في علوم القرآن وهناك روايات أخرى تخالف هذا المشهور فتقرر أن السورة مكية إلا بعض آياتها ، فإنه مدني .

وفي المصحف الفؤادي المطبوع بمصر ، سورة الكهف مكية إلا آية ( 38 ) ومن آية ( 83 ) إلى غاية ( ‍101 ) فمدنية ، وآياتها( 110 ) نزلت بعد الغاشية .

وقال الفيروبادي : السورة مكية بالاتفاق وفيها إحدى عشرة آية مختلف فيها بين مكيتها ومدنيتها .

وهي الآيات103 ، 9689 ، 86 ، 85 ، 84 ، 35 ، 32 ، 23 ، 22 ، 131

وينبغي أن يعلم أن كثيرا مما ذكر أنه مدني تضمنته سورة مكية ، أو مكي تضمنته سورة مدنية ، هو موضع خلاف بين العلماء ؛ لاختلاف الرواية فيه ، أو لانبناء الحكم فيه على اجتهاد واستنباط من القائل به وفي ذلك يقول ابن الحصار فيما نقاه عنه السيوطي في الإتقان : كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة ، إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل2 .

القصص في سورة الكهف

القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة ؛ ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف وبعدها قصة أصحاب الجنتين ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس . وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح . وفي نهايتها قصة ذي القرنين ، ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ، ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق على القصص أو تعقيب عليه .

ويلتقي هذا القصص حول فكرة أساسية للقرآن وهي إثبات أن البعث حق وأن المؤمن يكافأ بحسن الجزاء ، وأن الكافر يلقى جزاء عنته وكفره في الدنيا أو الآخرة .

قصة أصحاب الكهف

في قصة أصحاب الكهف يتجلى صدق الإيمان وقوة العقيدة والإعراض عن كل ما ينافيها إعراضا عمليا صارما ، لا تردد فيه ولا مواربة ، فتية رأوا قومهم في الضلال يعمهون ، وفي ظلمات الشرك يتخبطون ، لا حجة لهم ولا سلطان على ما يزعمون ، وأحسوا في أنفسهم غيرة على الحق لم يستطيعوا معها أن يبقوا في هذه البيئة الضالة بأجسامهم ، ولو خالفوها بقلوبهم ، فتركوا أوطانهم وتركوا مصالحهم واعتزلوا قومهم وأهليهم ، وخرجوا فارين متجنبين الشطط وأهل الشطط ، وآثروا كهفا يأوون إليه في فجوة منه ، لا يراهم فيه أحد ، ولا يؤنسهم في وحدتهم إلا كلبهم .

ذلك هو مغزى القصة الخلقي ، وفيه ما فيه من إرشاد وإيحاء وتمجيد لأخلاق الشرف والرجولة والثبات على العقيدة والتضحية في سبيلها .

أما المعنى العام الذي تتلقى فيه القصة مع غرض السورة فهو إثبات قدرة الله على مخالفة السنن التي ألفها الناس وظنوا أنها مستعصية عليه جل شأنه أن تبدل أو تحول كما هي مستعصية على كل مخلوق ، وشتان بين قدرة الخالق والمخلوقين ، وهذا ما تشير إليه القصة في ثناياها إذ يقول الله عز وجل : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها . . . } ( الكهف : 21 ) .

قصة موسى والخضر

أما قصة موسى وفتاه والعبد الصالح فلبابها ومغزاها هو إثبات قصور الخلق مهما سمت عقولهم ، وكثرت علومهم أمام إحاطة الله وعلم الله . وهكذا ترتبط- في سياق السورة- قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار .

لقد وقف موسى خطيبا في بني إسرائيل فأجاد وأبدع في خطبته ، فقال له أحد المستمعين : ما أفصحك يا نبي الله ! هل في الأرض من هو أكثر علما منك ؟ قال موسى : لا ، فأخبره الله : أن في الأرض من هو أكثر علما منه ، فقال موسى : يا رب ، دلني عليه ؛ حتى أذهب إليه وأتعلم منه .

وضرب لنا موسى مثلا رائعا في الرحلة ؛ لطلب العلم ، وتحمل الصعاب والمشتقات بهمة الرجال وعزيمة الأبطال .

إذا هم ألقى همه بين عينه *** ونكب عن ذكر العواقب جانبا

سار موسى مع تابع له هو يوشع بن نون ومعهما حوت في مكتل ، وبلغ مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم . أي : البحر الأبيض والبحر الأحمر ، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر .

وفي المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه نبي بني إسرائيل بعبده الصالح ، فقد موسى حوته وعاد ؛ ليبحث عنه فوجد رجلا نحيل الجسم ، غائر العينين ، عليه دلائل الصلاح والتقوى ، فسلم عليه موسى ، وتلطف معه في القول وأبدى رغبته في إتباعه ؛ ليتعلم منه العلم ، فاشترط الخضر على موسى : الصبر والتريث فقال موسى : { ستجدني إنشاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } . ( الكهف : 69 ) .

وانطلق موسى مع الخضر في سفينة جيدة ، وفي غفلة من أهلها أخذ الخضر لوحين من خشب السفينة فخلعهما ، فذكره موسى بأن هذا ظلم وفساد ، فالتفت الخضر إليه وقال : { ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } . ( الكهف : 72 ) . فاعتذر موسى بالنسيان ووعد أن يرافقه مع الصبر والسكوت .

وصار الرجلان ثم قتل الخضر غلاما بريئا في عمر الزهر فاحتج موسى ، وذكره الخضر بالشرط فسكت .

وفي الجولة الثالثة : دخل الرجلان قرية وكان الجوع قد اشتد بهما فطلبا من أهلها طعاما فأبوا إطعامهما ورأى الخضر جدارا متداعيا أوشك أن يقع فطلب من موسى مساعدته حتى بناه وأتم بناءه واعترض موسى على هذا العمل ؛ لأن أهل القرية لا يستحقون مثل هذا المعروف ؛ فهم بخلاء لؤماء ، فينبغي أن يأخذ الخضر أجرا على بناء الجدار لهم ، وافترق الرجلان بعد أن سمع موسى من الخضر سبب هذه الأعمال :

أما السفينة : فكانت ملكا لجماعة من المساكين يعتمدون عليها في كسب الرزق ووراءهم ملك ظالم يستولي على كل سفينة صالحة للعمل غصبا فخرق الخضر السفينة ؛ ليراها الملك عاطبة فيتركها ؛ ليستفيد بها أهلها ، فهو عمل مؤلم في الظاهر ولكنه مفيد في الحقيقة والواقع .

وأما الغلام : فقد كان مفسدا وسيشب على الفساد والإفساد وكان أبواه مؤمنين ، فأراد الله أن يقبض الغلام إلى جواره وأن يعوض والديه بنتا صالحة تزوجت نبيا وأنجبت نبيا .

وأما الجدار فكان ملكا لغلامين يتيمين تخدرا من رجل صالح كريم ، وكان تحت الجدار كنز من المال ولو سقط الجدار ؛ لتبدد الكنز فأراد الله أن يقام الجدار ويجدد ؛ حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما حلالا طيبا لهما . . ثم قال الخضر : { وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } . ( الكهف : 82 ) .

وقد يتساءل الإنسان عن عمل الخضر عليه السلام ، وهل هو مشروع على الإطلاق ، وهل يجوز لمن علم في حادثة- ما- مثلما علمه العبد الصالح من حقيقة الأمر فيها أن يخالف الظاهر ؟

وقد اهتم بعض المفسرين بترديد أمثال هذه الأسئلة والمناقشات والإجابة عنها وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج ، كأن الأمر أمر أحكام تشريعية أو بيان لموضوعات خلافية . والواقع أنه لم يقصد بهذه القصة إلا الإقناع بأن الإنسان مهما اتسع عقله وسمت مداركه وعلا منصبه ، محدود في علمه ، وأن كثيرا من الأمور يخفى عليه ، وأن لله عبادا قد يخصهم بنوع من العلم لا يبذله لجميع الناس ، ولا يستقيم حال الدنيا على بذله لجميع الناس .

قصة ذي القرنين

تلك قصة عبد مكّن الله له في الأرض وسخر له العلم والقوة والآلات والمواصلات وآتاه من كل شيء سببا . وقد استغل هذه الإمكانيات في عمل مثمر نافع يعم نفعه ويبقى أثره وقد تحرك ذو القرنين إلى المغرب غازيا فاتحا ، محاربا مجاهدا وصار النصر في ركابه حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها فتراءى له أن الشمس تغرب فيها وتختفي وراءها وظن أنه ليس وراء هذه العين مكان للغزو ولا سبيل للجهاد ، ولكنه رأى عندها قوما هاله كفرهم ، وكبر عليه ظلمهم وفسادهم فخيره الله بين قتالهم أو إمهالهم ودعوتهم للعدل والإيمان ، فاختار إمهالهم وقام فيهم مدة ضرب على يد الظالم ونصر المظلوم وأخذ بيد الضعيف ، وأقام صرح العدل ، ونشر لواء الإصلاح وقد وضع لهم دستور الحكم العادل فقال :

{ أما من ظلم فسوف نعذّبه ثم يردّ إلى ربّه فيعذّبه عذابا نكرا . وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا } . ( الكهف : 88 ، 87 ) .

وقد عاد ذو القرنين إلى الشرق فسار غازيا مجاهدا حتى انتهى إلى غاية العمران في الأرض وهناك أقواما تطلع الشمس عليهم ، ولكن ليس لهم بيوت تسترهم ، أو أشجار تظلهم ولعلهم كانوا على حال من الفوضى ونصيب من الجهل . . . فبسط حكمه عليهم ونفذ فيهم دستور العدل ومكافأة المحسن ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره ، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفرا منصورا ، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم ، أو يفهم في الحديث مرماهم ، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج ، وهم قوم مفسدون في الأرض ، وأوزاع من الخلق ضالون مضلون .

وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ؛ ليحول بينهم وبين المفسدين وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه ، وأموالا يضعونها بين يديه ولكن ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم ورد عطاءهم وقال لهم : { ما مكني فيه ربي خير . . . } ( الكهف : 95 ) .

ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل فحشدوا له الحديد والنحاس ، والخشب والفحم ، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب ، ثم أوقد النار ، وأفرغ عليه ذائب النحاس ، واستوى كل ذلك بين الجبلين سدا منيعا قائما ، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره ؛ لملاسته ، أو تنقبه ؛ لمتانته ، وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم ، ويألم من عدوانهم .

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ولكنه ذكر الله فشكره ، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وأعلن عقيدته في البعث والحشر وإيمانه بأن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجردا مستويا وهكذا تختم هذه القصة بتأكيد قدرة الله على البعث .

{ قال هذا رحمة من ربّي فإذا جاء وعد ربّي جعله دكّاء وكان وعد ربّي حقا } . ( الكهف : 98 ) .

وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين ، النموذج الطيب للحاكم الصالح يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب ، فيحتاج الأرض شرقا وغربا ، ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ودفع العدوان وإحقاق الحق . ثم يرجع كل خير يحقه الله على يديه إلى رحمة الله وفضله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته وأنه راجع إلى الله3 .

أهداف سورة الكهف

نزلت سورة الكهف بمكة في وقت اشتدت فيه حملة القرآن على المنكرين المكذبين بيوم الدين . وقد نزلت قبلها سورة الغاشية وهي سورة تبدأ وتنتهي بحديث الساعة ، وإياب الناس جميعا إلى الله ؛ ليحاسبهم على ما قدموا .

ونزل بعد سورة الكهف سورة النحل وعدة سور تحدثت عن البعث والجزاء وأثبتت وحدانية الله وقدرته وذكرت عقوبته للمكذبين وأخذه على يد الظالمين .

لقد كان كفار مكة ينكرون البعث ، ويستبعدون وقوعه في عناد وإصرار ، فتكفل القرآن بمناقشتهم وتفنيد آراءهم ، وأثبت قدرة الله على البعث والجزاء ، وقدم الأدلة على هذه القضية وساق في سورة الكهف عددا من الحجج والبراهين على حقيقتهما مبرزا ذلك في سورة واضحة قد اكتملت فيها عناصر القوة والروعة والإفحام . فالمحور الموضوعي لسورة الكهف هو تصحيح العقيدة ، وتأكيد قدرة الله على البعث والجزاء ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة .

ونستطيع أن نجمل مظاهر ذلك فيما يلي :

1- بدأت السورة بقوله تعالى : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّما . لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا حسنا . ماكثين فيه أبدا } . ( الكهف : 1 ، 3 ) .

وهي تتحدث في هذا البدء عن الدار الآخرة وما فيها من بأس شديد يصيب أقواما ، وأجر حسن يفوز به أقوام آخرون .

وختمت بقوله تعالى : { قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } . ( الكهف : 110 ) .

وهي تتحدث في هذا الختام عن الدار الآخرة أيضا وعمن يرجو لقاء ربه ، وما يجب عليه أثرا لهذا الرجاء والإيمان من عمل صالح ، وتوحيد الله لا يخالطه إشراك .

وهكذا يتلاقى أول السورة وآخرها : أولها يتحدث عن الآخرة بطريق التقرير لها ، وبيان مهمة القرآن في إثبات ما يكون فيها من الجزاء إنذارا وتبشيرا ، وآخرها يتحدث عن هذه الحقيقة التي تركزت وتقررت ويحاكم الناس إليها في الإيمان والعمل الصالح .

ومما يلاحظ أن آيات البدء قد ذكر فيها أمر الذين ؛ { قالوا اتخذ الله ولدا } ، من إنذارهم وبيان كذبهم وتخليطهم وجهلهم على الله ، وذلك هو قول الذين يشركون بالله ، ويعتقدون ما ينافي وحدانيته وتنزيهه ، وأن آية الختام قررت { أنّما إلهكم إله واحد } وأن على من يؤمن به ، ويرجو لقاءه ألا يشرك بعبادته أحدا ، فتطابق الأول والآخر في إثبات الوحدانية والتنزيه لله عز وعلا ، كما تطابقا في الأمر البعث والدار الآخرة .

2- أما في أثناء السورة وما بين بدئها وختامها ، فقد جاء أمر البعث عدة مرات :

( أ ) جاء في مقدمة قصة أصحاب الكهف التي ساقها الله حقيقة من حقائق التاريخ الواقعية ، دليلا على قدرته ، وتنظيرا لما ينكره الكافرون من أمر البعث والنشور : { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } . ( الكهف : 9 ) . وفي ثنايا هذه القصة : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها . . . } ( الكهف : 21 ) .

فهي تقرر : أن أصحاب الكهف آية من آيات الله ، وأنهم مع غرابة أمرهم لا يعدون في جانب القدرة الإلهية عجبا ، فإنما هم فتية آمنوا بربهم ، وأووا إلى الكهف فرارا بعقيدتهم ، فضرب الله على آذانهم فيه مدة من الزمن ثم بعثهم ، وإذن فالله قادر أن يضرب على آذان الناس جميعا في هذه الدار بالموت ، كما يضرب على آذانهم بالنوم ، ثم يبعثهم إلى الدار الآخرة كما بعث هؤلاء الفتية ، وما ذلكم على الله بعزيز ، ولا هو في قدرته بعجيب ، وتقرر أن العبرة من بعثهم والإعثار عليهم هي أن يعلم الناس أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها .

( ب ) وجاء أمر البعث مرة ثانية في هذه السورة حين قررت أن الحق من الله ، وأن كل امرئ مخير في الإيمان أو الكفر ؛ { وقل الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } فهناك دار أخرى غير هذه الدار يحاسب فيها كل امرئ ، ويجزى بما يستحقه : { إن اعتدنا للظالمين نارا أحاك بهم سرادقها } . ( الكهف : 29 ) .

وللذين آمنوا وعملوا الصالحات : { جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار . . . } ( الكهف : 31 ) .

( ج ) وجاء أمر البعث في المثل الذي ضربه الله للناس عن صاحب الجنتين وزميله ، وما كان من إنكاره قدرة الله ، وشكه في الساعة ، ونصح صاحبه له ، وتبرئه منه ، وأن الله قد أحال الجنتين صعيدا زلقا ، وحينئذ تنبه الكافر فقال : { يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } . ( الكهف : 42 ) .

( د ) وجاء أمر البعث بعد هذا في المثل الذي ضربه الله بالحياة الدنيا ، يكون فيها نبات وزينة ثم يصبح ذلك كله هشيما تذروه الرياح ، وتنتهي الدنيا وما فيها ، قد عقب الله على هذا المثل بذكر الجبال وسيرها ، والأرض وبروزها ، والحشر وشموله ، والعرض على الله ، ووضع الكتاب ، وإشفاق المجرمين مما فيه ، وقولهم : { يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } . ( الكهف : 49 ) .

( ه ) وجاء في السورة أيضا إشارة إلى قصة آدم وإبليس ، حيث طلب الله من الثاني أن يسجد للأول فأبى ، فتقررت بينهما العداوة منذ ذلك اليوم إلى أبد الدهر . وحذر الله أبناء آدم من أن يتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دونه ، مع هذه العداوة المتأصلة ، ثم ذكر لهم أمرا من أمور الآخرة بعد هذا التحذير من اتخاذ الأولياء أو الشركاء- حيث ينادي الشركاء فلا يجيبون ، ويستجار بهم فلا يجيرون ، وتبرز الجحيم فيراها المجرمون ويظنون أنهم مواقعوها ، ولا يجدون عنها مصرفا .

وفي هذا الأسلوب جمع بين المبدأ والمعاد ، ووضع لقضية الخلق والبعث مقترنتين بين يدي العقل ؛ ليدرك الإنسان أنه منذ أول نشته هدف لعدو مبين يحاول إضلاله ولفته عن الطريق المستقيم حسدا له وانتقاما منه ، وأن أخطر هذا الإضلال هو الوصول إلى حد الثقة بالعدو المبين ، واتخاذه وليا من دون الله يتبع أمره وينصر هواه ، وأن هذا العدو المختال سيكون أمره يوم الجزاء كسائر الشركاء ، يزينون الكفر والعصيان ما داموا في الدنيا . حتى إذا جاء أمر الله ؛ أعلنوا براءتهم ممن اتبعهم وضلوا بسببهم :

{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنّي بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عقابهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } . ( الحشر : 17 ، 16 ) .

( و ) وجاء في هذه السورة أيضا- مما يتصل ببراهين البعث- قصة موسى ، وفتاه ، والعبد الصالح .

وهي قصة عظيمة حافلة بالفوائد والمعاني الجليلة . وفيها يساق الحديث على نحو يشعر معه كل سامع شعورا قويا بأن لله علما فوق علم الناس ، وتصريفا للكون على سنن منها ما هو معروف ومنها ما هو خفي . وإذا آمن الناس بهذا واطمأنوا إليه ؛ لم يعد هناك مجال للعجب من أمر الساعة . فما هي إلا تغيير يحدثه خالق الكون ومالك ناصيته . فإذا السنن المعروفة تحل محلها سنن أخرى ، ومن قدر على إنشاء السنن قدر على تغييرها . وبهذا يؤمن كل عاقل بصدق ما أخبر به المعصوم من كل أمر يبدو أمام العقول عجيبا . وهو في قدرة الله غير عجيب .

( ز ) جاءت السورة أيضا- بعد هذه القصة- بقصة أخرى عن عبد مكن الله له في الأرض وأتاه من كل شيء سببا ، حيث سخر له العلم والقوة وأسبابا أخرى كثيرة ، ذلك هو : ( ذو القرنين ) وقد لجأ إليه قوم ؛ ليحول بينهم وبين المفسدين ، فأنجدهم وأعانهم وجعل الله عمله في ذلك رحمة للناس يبقى ما بقيت هذه الحياة ، فإذا جاء عد الله ضاعت السدود والحوائل وأصبحت دكا ، وترك الناس مضطربين يموج بعضهم في بعض ، ثم ينفخ في الصور فيجمعون جميعا ، وتعرض يومئذ جهنم للكافرين عرضا ، فيبصرون وقد كانت أعينهم من قبل في غطاء ، ويسمعون وقد كانت آذانهم من قبل في صمم . وهكذا نجد القصة قد انتهت إلى أمر البعث والدار والآخرة وما فيها وتخلصت إليه في براعة وقوة ، مذكرة به ، منذرة ما هنالك من الأهوال والشدائد .

( ح ) ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تهديد الكافرين الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، وتبين ما أعد لهم ، وتوازن هؤلاء جميعا بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أعد لهم ، ويأتي ختامها بعد إثبات القدرة والعظمة لله وأن كلماته لا تنفد ولو كتبت بماء البحار- والمراد : آياته في الكون وتصريفه وآثار قدرته- فتذكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها عن وحي من هذا الخالق القادر الواحد ، وتتوجه بعد ذلك إلى جميع الناس بصيغة من صيغة العموم ، هي لفظ ( من ) فتقول :

{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } . ( الكهف : ‍110 ) .

بهذا يتجلى للناظر في السورة أنها منتظمة النسق ، مطردة السياق ، واضحة الغرض ، قوية الأسلوب ، متماسكة في أولها وآخرها وأثنائها ، يجول فيها معنى واحد تلتقي عليه الآيات والأمثال والقصص والوعد والوعيد والتذكير والبيان . ولذلك يقول الله عز وجل في آية من آياتها : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . ( الكهف : 54 ) .

فضل سورة الكهف

سورة الكهف سورة القصص الهادف ، المشتمل على سمو العقيدة ، وفضل الإيمان ، وإكرام الله للمتقين ؛ فأهل الكهف شباب رفضوا عبادة الأوثان ، وأصروا على الثبات على الإيمان ، وذهبوا إلى الكهف تحصنوا به من ظلم الملك الكافر ؛ فأرسل الله عليهم النوم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم في عهد ملك مؤمن ، أكرمهم وسجل كفاحهم ؛ وقصة موسى والخضر فيها جهاد رسول كريم ، في طلب العلم والتواضع في طلبه ؛ وفيها بيان لسعة علم الله وعظيم حكمته .

وقصة ذي القرنين ، فيها بيان لجهود رجل صالح ، أعطاه الله الأسباب والقوة ، والجند والأتباع ، فسار في جنوده جهة الغرب ، وجهة الشرق ، وفي كل مكان يصل إليه ، يرسي معالم الحق والعدل والخير .

ويتعود المؤمنون قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ؛ رغبة في الثواب والتقرب إلى الله تعالى ؛ أخرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ؛ أضاء له النور ما بينه وبين الجمعتين )4 .

وقد وردت الأحاديث النبوية الشريفة في فضل سورة الكهف ، والآيات العشر التي في أول سورة الكهف ، والآيات العشر التي في آخرها وأنها عصمة من الدّجال .

عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ؛ عُصم من الدجّال )5 رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي .

وقال الإمام أحمد : عن أبي الدرداء : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ؛ عُصم من فتنة الدجّال )6 ورواه مسلم أيضا والنسائي .

وأخرج النسائي في سننه : عن ثوبان : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ؛ فإنها عصمة له من الدجّال )7 .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( 1 ) قيّما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا جسنا ( 2 ) ماكثين فيه أبدا ( 3 ) وينذر الذين قالوا اتّخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( 6 ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوّهم أيّهم أحسن عملا ( 7 ) وإنّا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ( 8 ) }

المفردات :

عوجا : العوج : الميل والانحراف عن الاستقامة ، فلا خلل في لفظة القرآن ولا في معناه .

التفسير :

‍1- { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا } .

حمد الله تعالى نفسه : فهو أهل الحمد والثناء والتعظيم والإجلال ؛ فقد أنزل كتابه العزيز على رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ وهو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، وجعله كتابا مستقيما لا عوج فيه ولا زيغ ؛ بل يهدي إلى صراط مستقيم ، واضحا بينا جليا ، فيه أخبار السابقين ، وبه أحكام وآداب ، وقصص وأمثال ، وبه سنن الكون ونظام الحياة ، وتشريع للعبادات والمعاملات ، وطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة .