التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية كلها . وهي فيها من أخبار السابقين ما يثير الخيال ويدهش اللب ؛ فهي أخبار تكشف عن مجاهيل مضت مع الغابرين الأولين مما لا علم لبشر أمي كرسول الله محمد ( ص ) بذلك إلا أن يتلقى تلك الأخبار من ربه .

ومن جهة أخرى : فإن هاتيك الأخبار في ذاتها وكيفية وقوعها ، إن هي إلا ضرب من ضروب الإعجاز الحسي الذي يخرج عن دائرة الكون في قوانينه ونواميسه .

على أن الخبر الأظهر والأكبر في هذه السورة ما سميت السورة كلها به وهو الكهف ، وأصحابه الفتية المؤمنون الأبرار الذين هاجروا ديارهم وأهليهم هربا من الكفر والبغيض . الكفر الذي تنفر منه الطبائع السليمة ؛ وتشمئز من المكث في سلطانه فطرة الطيبين الصالحين من الناس كأصحاب الكهف . ثم نستيقن بعد ذلك أن عقيدة التوحيد الخالص ، لهي الحافز المحقق الذي يزجي بالمرء إلى ابتغاء الحق والصواب ونشدان الخير مهما تكن الظروف . وأنها الإحساس المؤثر العظيم الذي يكمن في أغوار الإنسان ليسير في الأرض مهتديا مستبصرا دون تعثر أو تخبط أو اضطراب . إن عقيدة التوحيد لهي التي تؤلف بين العباد أعظم تأليف كيما يكون الناس جميعا إخوة مؤتلفين متحدين . لاجرم أن قصة الفتية الأبرار من أصحاب الكهف لهي أسطع صورة تكشف للعقول على مر الزمن عن سداد العقيدة الصحيحة السليمة ، وعن مدى تأثيرها البالغ في التأليف بين قلوب العباد ، ولترسيخ المودة والرحمة والتعارف بينهم . وأن العقيدة وحدها مطردة لكل أسباب الشقاء والبغضاء والقلق وغير ذلك من ظواهر الشر والسوء التي تسود البشرية الضالة عن منهج الله .

وبغير العقيدة الصحيحة السليمة ، عقيدة التوحيد الخالص ؛ لسوف تظل البشرية تائهة في الظلام ، سادرة في البلاء بكل صوره وأشكاله حتى تفيء إلى دين الله ومنهجه المستقيم . منهج الحق والرحمة والنجاة .

وفي فضل سورة الكهف وقراءتها ، أخرج الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي ( ص ) قال : " من قرأ العشر الأوائل من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال " .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الحمد لله الذي أنزل وعلى عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( 1 ) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( 2 ) ماكثين فيه أبدا ( 3 ) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) } ذكر ابن إسحاق سبب نزول هذه السورة المباركة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ( ص ) ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ؛ فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ؛ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه . وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم ؛ فإنه رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فجاءوا رسول الله ( ص ) فقالوا : يا محمد أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به . فقال لهم رسول الله ( ص ) : " أخبركم غدا عما سألتم عنه " ولم يستثن . فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( ص ) خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله ( ص ) مكث الوحي وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاء جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح{[2766]} .

قوله : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) هذا ثناء من الله على نفسه المجيدة ؛ فهو سبحانه المحمود في كل الأحوال وقد حمد نفسه ؛ إذ أنزل كتابه المبارك على رسول الله محمد ( ص ) ليكون للناس خير هاد وأعظم دليل ( ولم يجعل له عوجا ) الواو ، للعطف وعوجا ، حال . والتقدير : أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوجا قيما{[2767]} . والمعنى : أن الله أنزل القرآن على العالمين ولم يجعل فيه أيما اعوجاج أو زيغ ولم يحتمل شيئا من ضعف أو نقص ؛ بل جعله الله مستقيما معتدلا شاملا لكل وجوه الخير والحق ، مجانبا لكل احتمالات الشر والباطل وبذلك يصلح عليه حال البشرية ؛ فيصيروا إلى السعادة والنجاة في الدارين . وهو قوله سبحانه : ( قيما )


[2766]:- تفسير ابن كثير جـ3 ص 71 وتفسير القرطبي جـ10 ص 347.
[2767]:- البيان لابن الأنباري جـ2 ص 99.