46- من اليهود فريق يُميلون الكلام عن معناه ، ويقولون في أنفسهم للنبي : سمعنا القول وعصينا الأمر . ويقولون : اسمع كلامنا ، لا سمعت دعاء ، يدعون بذلك على النبي ويقولون : اسمع غير مسمع . فاللفظ يسوقونه ومرادهم منه الدعاء عليه ، ويوهمون أن مرادهم الدعاء له .
ويقولون : راعنا . يلوون بها ألسنتهم يوهمون أنهم يريدون : انظرنا . فيظهرون أنهم يطلبون رعايته ويبطنون وصفه بالرعونة ، ويطعنون بذلك في الدين لوصف مُبَلِّغه بالرعونة .
ولو أنهم استقاموا وقالوا : سمعنا وأطعنا ، بدل قولهم : سمعنا وعصينا . وقالوا : اسمع ، دون أن يقولوا : غير مسمع ، وقالوا : انظرنا ، بدل راعنا . لكان خيراً لهم مما قالوه وأعدل منه سبيلاً ، ولكن الله طردهم من رحمته بإعراضهم فلا تجد منهم من يستجيبون لداعي الإيمان إلا عدداً قليلاً .
ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود وهم علماء الضلال منهم .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى ، أو هما جميعا . فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها ، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره ، وكتمانهم ذلك .
فهذا حالهم في العلم أشر حال ، قلبوا فيه الحقائق ، ونزلوا الحق على الباطل ، وجحدوا لذلك الحق ، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد ، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون : { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم : اسمع منا غير مسمع ما تحب ، بل مسمع ما تكره ، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة ، بالعيب القبيح ، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله ، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول ، ويصرحون بذلك فيما بينهم ، فلهذا قال : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ }
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول ، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره ، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم ، والاعتناء بأمرهم ، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه . ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية ، أعرضوا عن ذلك ، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
ثم ذكر - سبحانه - ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التى كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فقال : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } . وتحريف الشئ إمالته وتغييره . ومنه قولهم : طاعون يحرف القلوب ، أى يميلها ويجعلها على حرف ، أى جانب وطرف . وأصله من الحرف يقال : حرف الشئ عن وجهه ، صرفه عنه .
والجملة الكريمة بيان للوصول وهو قوله - تعالى - { الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } .
ويجوز أن يكون قوله { مِّنَ الذين هَادُواْ } خبر لمبتدأ محذوف . وقوله { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } صفة له .
أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم من مواضعه أى يميلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب .
قال الفخر الرازى : فى كيفية التحريف وجوه :
أحدها : أهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر . مثل تحريفهم اسم " ربعة " عن موضعه فى التوراة بوضعهم " آدم طويل " ، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله .
الثانى : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة ، وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . وهذا هو الأصح .
الثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبى صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه .
والذى نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود لكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك ، لأنهم لم يترككوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها ، أملا منهم فى صرف الناس عن الدعوة الإِسلامية ، ولكن الله - تعالى - خيب آمالهم .
قال الزمخشرى : فإن قلت : كيف قيل ههنا { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفى المائدة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } قلت : " أما عن مواضعه " فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التى أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه .
وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كان له مواضع فمن بأن يكون فيها . فحين حرفوه تركوه كالغريب الذى لا موضع له بعد مواضعه ومقاره . والمعنيان متقاربان .
ثم حكى - سبحانه - لونا ثانياً من ضلالتهم فقال : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أى . ويقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إذا ما أمرهم بشئ : سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية .
ثم حكى - سبحانه - لونا ثالثا من مكرهم فقال : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق .
أى : ويقولون ذلك فى أثناء مخاطبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر . بأن يحمل على معنى " اسمع " حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه . ووجه محتمل للخير . بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه .
فأنت تراهم - لعنهم الله - أنهم كانوا يخاطبون النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير ، مع أنهم لا يريدون إلى الشر ، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين .
ثم حكى - سبحانه - لونا رابعا من خبثهم فقال : { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق .
وكلمة { وَرَاعِنَا } كلمة ذات وجهين - أيضاً - فهى للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك . ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها . أو على السب بالرعونة أى الحمق .
قال الراغب : قوله : - تعالى - { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } كان ذلك قولا يقولونه للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة ، ويوهمون أنهم يقولون : راعنا أى : أحفظنا . من قولهم : رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن . أى أحمق .
وأصل كلمة { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت ، فأدغمت الواو فى الياء لسبقها بالسكون . واللى : الانحراف والالتفات والانعطاف .
والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ فى السمع مشبها لفظا آخر هم يردونه لأنه يدل على معنى ذميم .
أى أنهم كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء { وَرَاعِنَا } ويقصدون بهذا القول الإِساءة إليه صلى الله عليه وسلم وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقاً ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب للشر . ولذا فقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الألفاظ .
قال ابن كثير : عند تفسيره لقوله - تعالى - { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين فى مقالهم وفعالهم . وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنفيص - عليهم لعائن الله - : فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا : يقولون راعنا ، ويورون بالرعونة : وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون . السام عليكم . والسام هو الموت . ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم . وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا . والغرض أن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا .
وقوله { وَطَعْناً فِي الدين } أى يقولون ذلك من أجل القدح فى الدين ؛ والاستهزاء بتعاليمه ، وبنبيه صلى الله عليه وسلم . ثم بين - سبحانه - ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال : تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } .
أى : ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق وخير ، { سَمِعْنَا } قولك سماع قبول وإستجابة ، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا .
ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم { واسمع } إجابتنا لدعوه الحق { وانظرنا } حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم { وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيراً لهم وأعدل من اقوالهم السابقة الباطلة التى حكاها القرآن عنهم .
ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة فى الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . أى : ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل ، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم :
ولفظ { قَلِيلاً } فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من قوله { لَّعَنَهُمُ } أى : ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يعلنوا : أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى : ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به ، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا ؛ لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله فى التصديق والطاعة . قال - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
وقوله تعالى : { من الذين هادوا } قال بعض المتأولين { من } راجعة على { الذين } الأولى ، فهي على هذا متعلقة ب { تر } ، وقالت طائفة ، هي متعلقة ب { نصيراً } والمعنى ينصركم من الذين هادوا ، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله : { نصيراً } وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الوافر ]
كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ *** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ{[4087]}
وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [ الطويل ]
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ *** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ{[4088]}
فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : { نصيراً } وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و { هادوا } مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم » على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليه السلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من » متعلقة «بنصيراً » جعل «يحرفون » في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون » صفة ، وقوله تعالى عنهم { سمعنا وعصينا } عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و { مسمع } لا يتصرف إلا من أسمع ، و { غير مسمع } يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأموروغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأموراً بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك { راعنا } كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان » فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ومن قال : { غير مسمع } غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف{[4089]} ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و { ليّاً } أصله لوياً ، قلبت الواو ياء وأدغمت { وطعناً في الدين } أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : { ولو أنهم } الآية : المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، { وانظرنا } فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ . . . لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي{[4090]}
وقالت فرقة : انظر - معناه : انظر إلينا ، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف{[4091]} ، ومنه قول ابن الرقيات [ الخفيف ] :
ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ . . . نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ{[4092]}
{ وأقوم } معناه : أعدل وأصوب ، «واللعنة » : الإبعاد ، فمعناه ، أبعدهم من الهدى ، و { قليلاً } : نعت ، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم ، والمعنى مختلف ، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال : إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة ، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك ، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها ، ومن عبر بالقلة عن النفر قال : لا يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما ، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً ، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر .
يجوز أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً .
و { مِنْ } تبعيضية ، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة { يحرّفون } والتقدير : قوم يحرّفون الكلَم .
وحَذْفُ المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفاً بجملة أوْ ظرف ، وكان بعضَ اسم مجرور بحرف { من } ، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ . ومن كلمات العرب المأثورة قولهم : « مِنَّا ظعنَ ومنّا أقام » أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام . ومنه قول ذي الرمّة :
فظَلّوا ومنهم دَمْعُهُ غالبٌ له *** وآخرُ يذري دمْعة العين بالهَمْل
أي ومنهم فريق ، بدليل قوله في العطف وآخر . وقولُ تميم بن مُقْبِل :
ومَا الدَّهْر إلاّ تَارتان فمنهمَا *** أمُوتُ وأخْرى أبتغي العَيشَ أكْدَح
وقد دلّ ضمير الجمع في قوله { يحرّفون } أنّ هذا صنيع فريق منهم ، وقد قيل : إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التَّابوت من اليهود ، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق ، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحداً ويؤتى بضمير الجماعة ، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه السلام : " ما بال أقوام يشترطون " الخ .
ويجوز أن يكون { من الذين هادوا } صفة للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، وتكون { مِن } بيانيّة أي هم الذين هادوا ، فَتكون جملة { يحرّفون } حالاً من قوله : { الذين هادوا } . وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته ، وسيأتي عند قوله تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه } في سورة المائدة ( 13 ) ، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ، كما يقال : تنكَّب عن الصراط ، وعن الطريق ، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل ، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة ، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة . ويجوز أن يكون التحريف مشتقّاً من الحرف وهو الكلمة والكتابة ، فيكون مراداً به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال . والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم . وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم ، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم ، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال { عن } في قوله : { عن مواضعه } مجازاً ، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة .
وقوله : { ويقولون } عطف على { يحرّفون } ذُكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم ، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول عليه الصلاة والسلام : يقولون سمِعْنا دعوتَك وعصيناك ، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم ، ولذلك لم يَرَوا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له : { واسمع غير مسمع } إظهار للتأدب معه .
ومعنى { اسمع غير مُسمع } أنّهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام : اسمع منّا ، ويعقّبون ذلك بقولهم : { غير مسمع } يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم : غير مُسمع ، أي غير مأمور بأن تسمع ، في معنى قول العرب : ( افعَلْ غيرَ مَأمُور ) . وقيل معناه : غير مُسْمَع مَكروهاً ، فلعلّ العرب كانوا يقولون : أسْمَعَه بمعنى سَبَّه . والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف . إطلاقاً متعارفاً ، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمَح به تركيبها الوضعي ، أي أن لا يسمع صوتاً من متكلّم . لأن يصير أصمّ ، أو أن لا يُستجاب دعاؤه . والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد : { ولو أنهم قالوا } إلى قوله : { اسمع وانظرنا } فأزال لهم كلمة ( غير مسمع ) . وقصدُهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يُرضوا الرسول والمؤمنين ويُرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول عليه السلام ويرضوا قومهم ، فلا يجدوا عليهم حجّة .
وقولهم : { وراعنا } أتوا بلفظ ظاهره طلب المُراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل ، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفقُ بالمرعِيّ ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه . وهم يريدون ب { راعنا } كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العَربية ، وقد روي أنّها كلمة { رَاعُونا } وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها ، يوهمون أنّهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الجماعة ، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغتراراً فقال في سورة البقرة ( 104 ) : { يأيها الذين آمنوا لا تَقولوا رَاعنا وقولوا انظُرْنا } واللَّيُّ أصله الانعطاف والانثناء ، ومنه { ولا تَلْوُون على أحد } ، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين : اللّي ، والألسنة ، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبهاً لغتين بأن يشبعوا حركات ، أو يقصروا مُشْبَعات ، أو يفخّموا مرقّقا ، أو يرقّقوا مفخما ، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبِه صورة كلمة أخرى ، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة ، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا . ويحتمل أن يراد بلفظ ( الليّ ) مجازُه ، وب ( الألسنة ) مجازه : فالليّ بمعنى تغيير الكلمة ، والألسنة مجاز على الكلام ، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير .
وانتصب « ليّاً » على المفعول المطلق ل { يقولون } ، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القَول .
وانتصب { طعناً في الدين } على المفعول لأجله ، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر ، ولا ضير فيه ، ولك أن تجعلهما معاً مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما ، وإنما كان قولهم ( طعناً في الدين ) ، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصداً خبيثاً فكانوا يقولون لإخوانهم ، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان : لو كان محمّد رسولاً لعلم ما أردنا بقولنا ، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها .
وقوله : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيراً . وقوله : { سمعنا وأطعنا } يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله « سَمّعٌ وطاعة » ، أي شأني سمع وطاعة ، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدإ لأنّه جرى مجرى المثل ، وسيجيء في سورة النور ( 51 ) قولُه تعالى : { إنّما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } وقوله : وأقوم تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور ، كقولهم : قام الدليلُ على كذا ، وقامت حجّة فلان . وإنّما كان أقومَ لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه ، بخلاف قولهم .
والاستدراك في قوله : { ولكن لعنهم الله بكفرهم } ناشىء عن قوله : { لكان خيراً لهم } ، أي ولكن أثر اللَّعْنَة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشَحُ نفوسهم إلاّ بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّىءٍ وقول بَذَاءٍ لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك .
ومعنى { فلا يؤمنون إلا قليلاً } أنهم لا يؤمنون أبداً فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه ، وأطلق القلّة على العدم . وفسّر به قول تَأبّط شرّاً :
قليلُ التشكّي للمُهِمّ يصيبُه *** كثيرُ الهَوى شَتَّى النَّوَى والمَسالك
قال الجاحظ في « كتاب البيان » عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين « كثيرة العقارب قليلة الأقارب » ، يضعون ( قليلاً ) في موضع ( ليس ) ، كقولهم : فلان قليل الحياء . ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قَلَّ » . قلت : ومنه قول العرب : قَلَّ رجل يقولُ ذلك ، يريدون أنّه غير موجود . وقال صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { أإله مع الله قليلاً ما تذكّرون } « والمعنى نفي التذكير . والقلّة مستعمل في معنى النفي » . وإنّما استعملت العرب القلّة عوضاً عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد ، فكأنَّ المتكلّم يخشى أن يُتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من الذين هادوا}: اليهود، {يحرفون الكلم عن مواضعه}، يعني بالتحريف: نعت محمد صلى الله عليه وسلم، عن مواضعه، عن بيانه في التوراة، ليا بألسنتهم، {ويقولون} للنبي صلى الله عليه وسلم {سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك، فلا نطيعك، {واسمع} منا يا محمد نحدثك {غير مسمع} منك قولك يا محمد، غير مقبول ما تقول، {وراعنا}: ارعنا سمعك، {ليا بألسنتهم وطعنا في الدين}: دين الإسلام، يقولون: إن دين محمد ليس بشيء، ولكن الذي نحن عليه هو الدين. يقول الله عز وجل: {ولو أنهم قالوا سمعنا} قولك {وأطعنا} أمرك {واسمع} منا {وانظرنا} حتى نحدثك يا محمد، {لكان خيرا لهم} من التحريف والطعن في الدين ومن راعنا، {وأقوم}: وأصوب من قولهم الذي قالوا. {ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}: والقليل الذي آمنوا به، إذ يعلمون أن الله ربهم، وهو خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
لقوله جلّ ثناؤه: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم. فيكون قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} من صلة «الذين». وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ}.
والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه. فتكون «من» محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} عليها، وذلك أن «مِن» لو ذكرت في الكلام كانت بعضا ل «مَنْ»، فاكتفى بدلالة «مِنْ» عليها، والعرب تقول: منا من يقول ذلك، ومنا لا يقوله، بمعنى: منا من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله، فتحذف «من» اكتفاء بدلالة من عليه، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك «القوم»، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، فأما نحويو الكوفة، فينكرون أن يكون المضمر مع «مِن» إلا «مَن» أو ما أشبهها.
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال: قوله: {مِنَ الذِينَ هادُوا} من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك.
{يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم: جماع كلمة. وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم: التوراة.
{عَنْ مَوَاضِعِهِ}: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا}: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك، وعصينا أمرك.
{وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره، أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع، لا أسمعك الله... أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشتما له واستهزاء.
وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. ولو كان ذلك معناه لقيل: واسمع غير مسموع، ولكن معناه: واسمع لا تسمع، ولكن قال الله تعالى ذكره: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}: غير مقبول ما تقول.
{وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ}: أي راعنا سمعك، افهم عنا وأفهمنا.
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ}: تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَطَعْنا فِي الدّين}... والراعن: الخطأ من الكلام.
{وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ}: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبيّ الله: سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا، {لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ}: لكان ذلك خيرا لهم عند الله "وأقوم": وأعدل وأصوب في القول. وهو من الاستقامة من قول الله: {وَأقْوَمَ قِيلاً}: وأصوب قيلاً. عن مجاهد: {وَانْظُرْنا}: أفهمنا.
وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى: {وَانْظُرْنا} إلى: اسمع منا، وتوجيه مجاهد ذلك إلى: أفهمنا، ما لا نعرف في كلام العرب، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا: انتظرنا نفهم ما تقول، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها، فلا نعرف «انظرنا» في كلام العرب إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا. {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً}: ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد، واتباع الحقّ بكفرهم، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات {فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً} يقول: فلا يصدّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً، يقول: لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً.
عن قتادة في قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً} قال: لا يؤمنون هم إلا قليلاً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تحريف الكلام يحتمل وجهين: يحتمل تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم كقوله تعالى: {وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم} الآية (آل عمران 78)، ويحتمل تغيير اللفظ والكتابة سبحانه وتعالى {فويل للذين يكتبون بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} (البقرة 79). {وراعنا} قيل: يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم {وراعنا} سمعك وقيل: {وراعنا} حقوقنا وهو من الرعاية...
{لكان خيرا لهم} مما قالوا في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فدوام الرئاسة التي خافوا فواتها لو أطاعوه، واتبعوه، فلم تذهب عنهم الرئاسة والذكر في الدنيا بل زادهم شرفا وذكرا في الحياة وبعد الممات. وأما في الآخرة فثواب دائم غير زائل أ بدا...
{ولكن لعنهم الله بكفرهم} واللعن: الطرد، طردهم الله عز وجل من رحمته ودينه لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر...
{فلا يؤمنون إلا قليلا} قيل: والقليل من نحو ابن سلام وأصحابه، وقيل: قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلا قليلا} أي لا يؤمنون إلا بقليل من الكتب والأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى: {نؤمن ببعض ونكفر ببعض} (النساء: 150)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تركوا حشمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورفضوا حرمته، فعوقبوا بالشك في أمره، ولذلك لم يترك أحد حشمته (محتشم) إلا حيل بينه وبين نيل بركات صحبته وزوائد خدمته. ولو أنهم عاجلوا في نفي ما دَاخَلَهم من الحسد وقابلوا حاله بالتبجيل والإعظام لوجدوا بركات متابعته، فأُسْعِدوا به في الدارين، وكيف لم يكونوا كذلك وقد أقصتهم السوابق فأقعدتهم القسمة عن بساط الخدمة؟ وإنَّ مَنْ قعدت به الأقدار لم ينهض به الاحتيال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يميلونه عنها ويزيلونه؛ لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها، وأزالوه عنها... فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عن مواضعه) وفي المائدة {من بعد مواضعه} [المائدة: 41] قلت: أمّا (عن مواضعه) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا {من بعد مواضعه} فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فلا يؤمنون إلا قليلاً}: نعت، إما للإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار...
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور:
أحدها: أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في متعلق قوله: {من الذين} وجوه: الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، والثاني: أن يتعلق بقوله: {نصيرا} والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا}. الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و {يحرفون} صفته. تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه. الرابع: أنه تعالى لما قال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة} بقي ذلك مجملا من وجهين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب وقيل: يحرفون الكلم...
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرفون الكلم عن مواضعها. والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره، ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثا ليس أمرا حقيقيا، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرئ، يحرفون الكلم...
المسألة الثالثة: في كيفية التحريف وجوه: أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر... ونظيره قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله}. فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ قلنا لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف. والثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح. الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه...
المسألة الرابعة: ذكر الله تعالى ههنا: {عن مواضعه} وفي المائدة {من بعد مواضعه} والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: {يحرفون الكلم عن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب. وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: {يحرفون الكلم} إشارة إلى التأويل الباطل وقوله: {من بعد مواضعه} إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.
النوع الثاني: من ضلالاتهم: ما ذكره الله تعالى بقوله: {ويقولون سمعنا وعصينا} وفيه وجهان: الأول: أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في أنفسهم: وعصينا. والثاني: أنهم كانوا يظهرون قولهم: سمعنا وعصينا، إظهارا للمخالفة، واستحقارا للأمر.
النوع الثالث: من ضلالتهم قوله: {واسمع غير مسمع}. واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم، ويحتمل الإهانة والشتم. أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه: الأول: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله: {غير مسمع} معناه: غير سامع، فإن السامع مسمع، والمسمع سامع. الثاني: غير مسمع، أي غير مقبول منك، ولا تجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا. الثالث: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، ومتى كان كذلك فإن الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم.
النوع الرابع: من ضلالاتهم قولهم: {وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين} أما تفسير {راعنا} فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه: الأول: أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: قوله: {راعنا} معناه ارعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم. الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم. الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: {راعنا} راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا، وقوله: {ليا بألسنتهم} قال الواحدي: أصل (ليا) لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه: الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: {غير مسمع} وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي. الثاني: أنهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق. الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الإخبار عن الغيب معجز. فإن قيل: كيف جاؤوا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟ والجواب من وجهين:
الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال: إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: {وعصينا} بل كانوا يقولونه في أنفسهم.
والثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم.
ثم قال تعالى: {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم} والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: {واسمع غير مسمع} قولهم واسمع، وبدل قولهم: {راعنا} قولهم: {انظرنا} أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم. ثم قال: {ولكن لعنهم الله بكفرهم} والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به: {من الذين هادوا} ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله -ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى: بعضهم، أو منهم من -: {يحرفون الكلم} أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به {عن} ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال: {مواضعه} أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً، فالذي في المائدة أخص.
ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره: فيقولون كذا ويقولون كذا: {ويقولون سمعنا} أي ما تقول {وعصينا} موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه {واسمع} حال كونك {غير مسمع} موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم: فلان أسمع فلاناً الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال: اسمع لا سمعت! {وراعنا} موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم -يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال: {ليّاً بألسنتهم} أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة {وطعناً في الدين} أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا فقال قاطعاً جدالهم: {ولو أنهم قالوا} أي في الجواب له صلى الله عليه وسلم {سمعنا وأطعنا} أي بدل الكلمة الأولى {واسمع وانظرنا} بدل ما بعدها {لكان} أي هذا القول {خيراً لهم} أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم {وأقوم} أي لعدم الاحتمال الذم {ولكن لعنهم الله} أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير {بكفرهم} أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك.
ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال: {فلا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {إلا قليلاً} أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}: هذا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب واتصفوا بالضلالة والإضلال وقوله: {والله أعلم بأعدائكم} الخ جمل معترضة بين البيان والمبين، أو هو بيان لعدائكم والاعتراض ما بينهما، أو متعلق بنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا، أو التقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، والأول أظهر. وتحريف الكلم عن مواضعه هو إمالته وتنحيته عنها كان يزيلوه بالمرة أو يضعوه في مكان غير مكانه من الكتاب أو المراد بمواضعه معانيه كان يفسروه بغير ما يدل عليه.
أحدهما: تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له وهو المتبادر لأنه هو الذي حملهم على مجاحدة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار نبوته وهم يعلمون، إذ أولوا ولا يزالون يؤولون البشارات به إلى اليوم كما يؤولون ما ورد في المسيح ويحملونه على شخص آخر لا يزالون ينتظرون.
ثانيهما: أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر وقد حصل مثل هذا التشويش في كتب اليهود: خلطوا فيما يؤثر عن موسى عليه السلام ما كتب بعده بزمن طويل وكذلك وقع في كلام غيره من الأنبياء وقد اعترف بهذا بعض المتأخرين من أهل الكتاب وإنما كان هذا منهم بقصد الإصلاح. وهذا النوع من التحريف لا يضر المسلمين ولم يكن هو الحامل على إنكار ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا ما قرره الأستاذ الإمام في الدرس وكتبت في مذكرتي عند كتابته كأنه وجد عندهم قراطيس متفرقة أي بعد أن فقدت النسخة التي كتبها موسى عليه السلام فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود فجاء فيه ذلك الخلط، وهذا سبب ما جاء في أسفار التوراة من الزيادة والتكرار. وقد أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة وفي كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى مئة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها والأول ثلاثة أقسام تبديل الألفاظ وزيادتها ونقصانها...
{ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا}: ويقول هؤلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: سمعنا قولك وعصينا أمرك...
يحتمل أن يكون المعنى: واسمع شيئا لا يستحق أن يسمع، وأما {راعنا} فقد روي أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة "راعينا "العبرانية أو السريانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا من المراعاة أو بمعنى أرعنا سمعك فافترصوها وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.
{ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين} فيجعلونها في الظاهر راعنا وبِلَيِّ اللسان وإمالته "راعنا" ينوون بذلك الشتم والسخرية أو جعله راعنا من رعاء الشاء أو من الرعن والرعونة... وقد تقدم شرح ذلك في تفسير: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة:103] من سورة البقرة وبينا هنالك أن الأستاذ الإمام لم يرتض ما قالوه في كون هذه الكلمة سبّا بالعبرانية واختار في تعليل النهي عنها أنها لما كانت من المراعاة وهي تقتضي المشاركة نهوا عنها تأديبا لهم إذ لا يليق أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ارعنا نرعك كما هو معنى المشاركة كما نهوا أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض قال: وهناك وجه آخر يقال في اللغة: راعى الحمار الحمر، إذا رعى معها فكان اليهود يحرفون الكلمة إلى هذا المعنى وإن كان فيها سبّ لأنفسهم على حد "اقتلوني ومالكا"، ومن تحريف اللسان وليه في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم قولهم في التحية" السام عليكم "يوهمون بفتل اللسان وجمجمته أنهم يقولون السلام عليكم وقد ثبت هذا في الصحيح وأنه كان عليه السلام بعد العلم بذلك يجيبهم بقوله: (وعليكم) أي كل أحد يموت.
{ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم} أي لو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك، واسمع ما نقول وانظرنا أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا، يقال نظره بمعنى انتظره وهو كثير في القرآن، أو انظر إلينا نظر رعاية ورفق لكان خيرا لهم وأقوم مما قالوه لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.
{ولكن لعنهم الله بكفرهم} أي خذلهم وأبعدهم عن الصواب بسبب كفرهم أي مضت سنته في طباع البشر وأخلاقهم أن يمنع الكفر صاحبه من مثل هذه الروية والأدب، ويجعله طريدا لا يدلي إلى الخير والرحمة بحبل ولا سبب {فلا يؤمنون إلا قليلا} من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا يزكي نفسه ولا يرقى عقله ولو كان إيمانهم بكتابهم ونبيهم كاملا لكان خير هاد لهم إلى الإيمان بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب ومهيمنا عليه يبين ما نسوا منه وما حرفوا فيه، ثم إنه جاء بإصلاح جديد في إتمام مكارم الأخلاق ونظام الاجتماع وسائر مقاصد الدين فمن كان على شيء من الخبر وجاءه زيادة فيه لا يكون إلا مغبوطا بها حريصا على الاستفادة منها أو لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فإن الأمة مهما فسدت لا يعم الفساد جميع أفرادها بل تغلب سلامة الفطرة على أناس يكونون هم السابقين إلى كل إصلاح جديد، هكذا كان وهكذا يكون فهي سنة من سنن الله في الاجتماع، وقد نبهنا من قبل على دقة القرآن في الحكم على الأمم إذ يحكم على الأكثر فإذا عم الحكم يستثنى وهي دقة لم تعهد في كلام البشر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة -وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة- ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود. ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة: (من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويقولون: سمعنا وعصينا. واسمع -غير مسمع- وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين.).. لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبى صلى الله عليه وسلم. وتحريف الكلم عن المقصود به، ليوافق الأهواء، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون -في هذه الخصلة- اليهود!... ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول. ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع! -مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا. إذ يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: (واسمع- غير مسمع -وراعنا).. ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع- غير مأمور بالسمع [وهي صيغة تأدب] -وراعنا: أى: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين!... وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه. ويطمعهم- بعد ذلك كله -في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم. وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون: (ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلاً).. فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها: (سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا). لكان هذا خيرا لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم- بسبب كفرهم -مطرودون من هداية الله. فلا يؤمن منهم إلا القليل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فهذا الفريق لا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبي صلى الله عليه وسلم منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحملونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل المعاني، ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي صلى الله عليه وسلم:... {ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع} وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم جمجموا في أنفسهم أو غمزوا به فيما بينهم قائلين: {سمعنا وعصينا} أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لا مرية فيه، ولا توجد نفس أوغلت في العناد بأكثر من ذلك!! وإنهم يردفون ذلك القول العاصي الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون: {واسمع غير مسمع} وقولهم {واسمع} المراد به اسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها... وإنا نختار ما عليه أكثر المفسرين، وهو أن يكون مرادهم لعنهم الله الدعوة عليه، عليه الصلاة والسلام بعدم السماع، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل، وما أودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، زادهم الله خزيا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، وزاد الله محمدا صلى الله عليه وسلم وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا. وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين...
تكلم الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح: أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي" آدم "وبعد ذلك خلقت منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيرا ونساء، والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك؟ أوضح سبحانه: أريد مجتمعا قويا، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك مادمت أريد استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيبا، وتكلم سبحانه عن التركة، ثم تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملا؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعفاء فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بد أن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله؟، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسكم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه: أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا}، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه سبحانه يرجع بنا مرة ثانية لليهود؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا: أن هناك ناسا ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، ويعلمون مثلكم تماما، إنما اشتروا الضلالة؟، إذن فهو شرح لنا؛ إنه الواقع الملموس ولا يأتينا سبحانه بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول: يحدث أو لا يحدث، إنه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا: إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} والتحريف: أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين: معنى خير، ومعنى شر، و لكنك تريد منه الشر، ومثل الذي يقول: "السام عليكم والعياذ بالله" هي في ظاهرها أنه يقول: السلام عليكم، لكنه يقول: السام. يعني "الموت"، إذن ففي اللفظ ما يلحظ ملحظ الخير، ولكن العدو يميله إلى الشر.
ومثل هذا ما قالوه للنبي: "قالوا راعنا" وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر: اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على ا لكلمة التي تحتمل التوجهين؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيرا وقد يريد بها شرا، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا.
والحق يقول: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظرة السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة: {يشترون الضلالة بالهدى} ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول: {يشترون الضلالة}، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق:
{يحرفون الكلم من بعد مواضعه} (من الآية 41 سورة المائدة).
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، فكان المسالة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع أولا وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله: {من بعد مواضعه} فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
{ويقولون سمعنا وعصينا}. فهم يقولون قولا مسموعا "سمعنا" ثم يقولون في أنفسهم "إنا عصينا". فقولهم: "سمعنا وعصينا" ففي نيتهم "عصينا"، إذن فقولهم "سمعنا" يعني سماع أذن فقط. إنما "عصينا" فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سرا أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، "واسمع غير مسمع" ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يسمعكم، بدليل أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاما لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوها أخرى فتقلبونها إلى معان لا تليق، مثل قولكم: "غير مسمع" ما يسرك، أو "غير مسمع" أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له معاذ الله الصمم، وقد تكون سبابا من قولهم: أسمع فلان فلانا إذا سبه وشتمه، فالكلام محتمل.
{واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم} لم يقولوا: "راعنا" من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا. اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و "اللي": هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.
{ليا بألسنتهم وطعنا في الدين}، وماداموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرا؛ لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يريد؟.. إنه يريد "طعنا في الدين"، "ولو انهم قالوا سمعنا"، وبدلا من إضمار المعصية يقولون: {وأطعنا واسمع وانظرنا} بدلا من "راعنا"، ف "انظرنا" لا تحتمل معنى سيئا.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شر. فلو قالوا سمعنا وأطعنا "واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن"، وساعة تسمع كلمة "لكن" فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه يقول: {ولو أنهم قالوا}، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.
{ولكن لعنهم الله بكفرهم} و "اللعن" هو: الطرد والإبعاد، فهل تجنى الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
{ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}. وساعة تسمع نفى حدث "لا يؤمنون" ثم يأتي استثناء "إلا"، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلا: لا يأكل إلا قليلا، كلمة "لا يأكل" نفث الأكل، "وإلا قليلا" أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول: "فلا يؤمنون إلا قليلا". والإيمان حدث يقتضى محدثا هو: من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، صالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة "فلا يؤمنون إلا قليلا" تعني: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا؛ لأنهم يؤمنون قليلا بالصلاة، وبأنهم لا يعلمون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلا فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلي القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، او آمن قليل منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبدا لله بن سلام، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضا "قليلا منهم" هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضا أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه "صيانة الاحتمال"؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز وهذا ما حدث أن هناك أناسا من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال: "فلا يؤمنون" فقط لكان من الصعب عليهم أن يعلنوا الإيمان لكن عندما يقول: "إلا قليلا" فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هؤلاء هم اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا. وقد حدثنا الله عنهم أنهم لا يواجهون القضايا من موقع مداليلها الحقيقية بصراحة ووضوح، ولا يستقيمون في تعاملهم مع المبادئ والأشخاص والكلمات؛ بل يعملون على تحريف الأمور ولا سيما الكلمات التي توحي بالمبادئ الصحيحة عن مواضعها، بما يتناسب مع شهواتهم وأهدافهم. ولهذا، فإن على المؤمنين أن يحذروا منهم، حتى في الحالات التي يتحدثون فيها بكلام الله، لأنهم سوف يستغلّون أجواء قداسة الكلمات، وشعور الآخرين بأنهم أي اليهود يعرفون من كلام الله ما لا يعرفه غيرهم؛ وبذلك يضلّلون الناس باسم الهدى، وهم لا يشعرون. وهذا أسلوبٌ قرآنيٌ يريد الله من خلاله أن يوحي للمؤمنين بأن يدرسوا طبيعة الأشخاص من مواقع تاريخهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم ومواقفهم، قبل الاستماع إليهم، ليعرفوا من ذلك نوعية الأساليب التي يتبعونها في الدعوة والمعاملة والموقف، ليحذروا مما يمكن أن يكون موقفاً للحذر في ذلك كله...