22- ولا يَحّلِف الصالحون وذوو اليسار منكم علي أن يمنعوا إحسانهم ممن يستحقونه من الأقارب والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وغيرهم لسبب من الأسباب الشخصية ، كإساءتهم إليهم ، ولكن ينبغي أن يسامحوهم ويعرضوا عن مجازاتهم ، وإذا كنتم تحبون أن يعفو الله عن سيئاتكم فافعلوا مع المسيء إليكم مثل ما تحبون أن يفعل بكم ربكم ، وتأدبوا بأدبه فهو واسع المغفرة والرحمة{[147]} .
{ وَلَا يَأْتَلِ } أي : لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله ، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، لقوله الذي قال .
فنزلت هذه الآية ، ينهاهم{[560]} عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ، ويحثه على العفو والصفح ، ويعده بمغفرة الله إن غفر له ، فقال : { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم عبيده ، بالعفو والصفح ، عاملكم بذلك ، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية- : بلى ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع النفقة إلى مسطح ، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب ، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان ، والحث على العفو والصفح ، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم .
ثم حض - عز وجل - أصحاب النفوس النقية الطاهرة ، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة ، فقال : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شأن أبى بكر - رضى الله عنه - عندما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة .
وكان مسطح قريبا لأبى بكر . وكان من الفقراء الذين تعهد - أبو بكر رضى الله عنه - بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه .
وقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ } أى : ولا يحلف . يقال : آلى فلان وائتلى . إذا حلف ومنه قوله - تعالى - : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ . . . } أى : يحلفون .
أى : ولا يحلف " أولوا الفضل منكم والسعة " أى أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين . وفى سعة المال " أن يؤتوا أولى القربى . . " أى : على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، شيئا من أموالهم .
فالكلام فى قوله : " أن يؤتوا " على تقدير حرف الجر ، أى : لا يحلفوا على أن لا يؤتوا ، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد ، ومفعول " يؤتوا " الثانى محذوف . أى : أن يؤتوا أولى القرى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، النفقة التى تعودوا أن يقدموها لهم .
وقوله - تعالى - : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } تحريض على العفو والصفح .
والعفو معناه : التجاوز عن خطأ المخطىء ونسيانه ، مأخوذ من عفت الريح الأثر ، إذا طمسته وأزالته .
والصفح : مقابلة الإساءة بالإحسان ، فهو أعلى درجة من العفو .
أى : قابلوا - أيها المؤمنون - إساءة المسىء بنسيانها ، وبمقابلتها بالإحسان .
وقوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } أى : ألا تحبون - أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم ، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم ؟
فالجملة الكريمة ترغيب فى العفو والصفح بأبلغ أسلوب ، وقد صح أن أبا بكر - رضى الله عنه - لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا ، وأعاد إلى مسطح نفقته ، وفى رواية : أنه - رضى الله عنه - ضاعف لمسطح نفقته .
قال الآلوسى : " وفى الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها . واستدل بها على فضل الصديق - رضى الله عنه - لأنه داخل فى أولى الفضل قطعا ، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر فى ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر . . . " .
ثم ختم - سبحانه - الأية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى : والله - تعالى - كثيرة المغفرة ، وواسع الرحمة بعباده ، فكونوا - أيها المؤمنون - أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم .
{ ولا يأتل } ولا يحلف افتعال من الألية ، أو ولا يقصر من الألو ، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا " يتأل " . وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين . { أولوا الفضل منكم } في الدين . { والسعة } في المال . وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه . { أن يؤتوا } على أ لا { يؤتوا } ، أو في { أن يؤتوا } . وقرئ بالتاء على الالتفات . { أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } صفات لموصوف واحد ، أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك ، أو لموصفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود . { وليعفوا } عما فرط منهم . { وليصفحوا } بالإغماض عنه . { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم . { والله غفور رحيم } مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه . روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا يأتل} يعني: ولا يحلف {أولو الفضل منكم} يعني: في الغنى {والسعة} في الرزق، يعني: أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، {أن يؤتوا أولي القربى} يعني: مسطح بن أثاثة... [من] قرابة أبي بكر الصديق ابن خالته، {والمساكين} لأن مسطحا كان فقيرا {والمهاجرين في سبيل الله} لأنه كان من المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة {وليعفوا} يعني: وليتركوا {وليصفحوا} يعني: وليتجاوزوا عن مسطح.
{ألا تحبون} يعني: أبا بكر {أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}، يعني: بالمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:"أما تحب أن يغفر الله تعالى لك"؟ قال: بلى، قال: "فاعف واصفح "فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد عفوت وصفحت لا أمنعه معروفا بعد اليوم، وقد جعلت له مثل ما كان قبل اليوم، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، قد حرمه تلك العطية حين ذكر عائشة، رضي الله عنها، بالسوء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم، يعني ذوي التفضل والسّعة يقول: وذوو الجِدَة.
"وَلا يَأْتَلِ" بمعنى: يفتعل من الأَلِيّة، وهي القسم بالله... وإنما عُنِي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على مِسْطَح، فقال جلّ ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألاّ يُعْطُوا ذَوِي قَرابتهم فيصِلوا به أرحامهم، كمِسْطح، وهو ابن خالة أبي بكر. "والمساكين": يقول: وذوي خَلّة الحاجة، وكان مِسْطح منهم، لأنه كان فقيرا محتاجا، "والمهاجرين في سبيل الله" وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله، وكان مِسْطَح منهم لأنه كان ممن هاجر من مكة إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا. "وَلْيَعْفُوا" يقول وليعفُوا عما كان منهم إليهم من جُرم، وذلك كجرم مِسْطح إلى أبي بكر في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك. "وَلْيَصْفَحُوا" يقول: وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم. "ألا تُحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ" يقول: ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم، فيترك عقوبتكم عليها.
"وَاللّهُ غَفُورٌ" لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيم بهم أن يعذّبهم مع اتباعهم أمره وطاعتهم إياه، على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها وتابوا إليه من فعلها...
عن عائشة، قالت: لما نزل هذا يعني قوله: "إنّ الّذِينَ جاءُوا باْلإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ" في عائشة، وفيمن قال لها ما قال، قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال وأدخل عليها ما أدخل، قالت: فأنزل الله في ذلك: "وَلا يأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ..."، قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح نفقتَه التي كان يُنفِق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا...
عن ابن عباس، قوله: "وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ" يقول: لا تُقْسِموا ألاّ تنفعوا أحدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...لكن الآية، وإن نزلت في أمر ومعنى كان من أبي بكر، فإن غيره من الناس يشترك في معنى ذلك؛ وفي ذلك النهي...وعلى ذلك القرآن إذا نزل بسبب أو نازلة لمعنى، يشترك من وجد فيه ذلك المعنى في ذلك الحكم، فعلى ذلك ما نزل في أبي بكر من النهي بترك الإنفاق وما عوده من اصطناع المعروف إليه لما كان منه إليه من الإساءة. ثم أمره بالعفو والصفح، وهو قوله:"وليعفوا وليصفحوا" أي اعفوا عن إساءته، واصفحوا، أي لا تذكروا عفوكم إياه عن إساءته، ولا تذكروا زلته أيضا، لأن ذكر العفو يخرج مخرج الامتنان كقوله "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى "(البقرة: 264) أخبر أن المن يبطل الصدقة وذكر الزلة يخرج مخرج التغيير والتوبيخ. فأمره بالعفو، وهو ظاهر، والصفح وهو ما ذكرنا من ترك ذكر العفو والزلة والإساءة جميعا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ألا تحبون أن يغفر الله لكم" معاصيكم جزاء على عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم.
"والله غفور رحيم" أي ساتر عليكم منعم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهو من ائتلى إذا حلف: افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدخر منه شيئاً. ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتأل. والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان فقيراً من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط: آلى أن لا ينفق عليه.
وكفى به داعياً إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسيء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وهذا المراد من قوله: {ولا يأتل} أي يحلف مبالغاً في اليمين {أولوا الفضل منكم} الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم {والسعة} أي بما أوسعت عليهم في دنياهم.
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال: {أن يؤتوا} ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال: {أولي القربى} وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت! فقال سبحانه: {والمساكين} أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة {والمهاجرين} لأهلهم وديارهم وأموالهم {في سبيل الله} أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله، وتعدادها بجعلها علة للعفو -دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها.
ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو، وكان التقدير: فليؤتوهم، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله: {وليعفوا} أي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر. ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال: {وليصفحوا} أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك الإحسان، ومنه الصفوح وهو الكريم.
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال: {ألا تحبون} أي يا أولي الفضل {أن يغفر الله} أي الملك الأعظم {لكم} أي ما قصرتم في حقه...
وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه! ومن سؤدد وفخار ما أعلاه! ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين، وخير الخلائق أجمعين، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً، فيا لله من أخلاق ما أبهاها! وشمائل ما أطهرها وأزكاها! وأشرفها وأسندها.
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه: بلى والله! إنا لنحب أن يغفر الله لنا، وكان كأنه قيل: فاغفروا لمن أساء إليكم، فالله حكم عدل، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء، والله عليم شكور، يشكر لكم ما صنعتم إليهم، عطف عليه قوله: {والله} أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل {غفور رحيم} من صفته ذلك، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض -كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب -:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله؛ وليعفوا وليصفحوا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم..
نزلت في أبي بكر- رضي الله عنه -بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه. وهو قريبه. وهو من فقراء المهاجرين. وكان أبو بكر- رضي الله عنه -ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا.
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم- بعضهم مع بعض -بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا..
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق- رضي الله عنه -أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه. فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟) حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على منطق البيئة. وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله. فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبدا. ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبدا.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر...
والفضل: أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا. ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مراداً هنا لأن عطف {والسعة} عليه يبعد ذلك. والمعنيّ من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق...والسعة: الغنى. والاستفهام في قوله: {ألا تحبون} إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله: {وليعفوا وليصفحوا}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الفضل} هنا هو الخلق الكريم الذي يفيض بالخير على الناس، فالمعنى ولا يأتل أصحاب الفضل الذين لا يشحون بخير على من دونهم، ومن مثل أبي بكر في الفضل بعد النبيين، الذي كان إذا رأى من يفتن في دينه اشتراه من وليه وأعتقه، و (السعة)، أي الخير الكثير في المال، وبذلك يكون أولئك الفضلاء يجمعون بين الخلق الكامل والمال الثري، يفيض بخلقه، ويعطي من ماله، يطالب هؤلاء بأن يغفروا زلات من يعطونهم، كما يغفر الله لهم زلاتهم وخطيئاتهم...
{أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الاستفهام بمعنى النفي والتنبيه على وجوب الغفران، أي أنه كما أنكم تحبون أن يغفر الله لكم فاصفحوا واعفوا، فإن الجزاء من جنس العمل والوجدان والإحساس، والفرق بين العفو، والصفح، وهو أن العفو هو عدم جزاء السيئة بمثلها، ودفع السيئة بالحسنة، والصفح هو محو آثار الإساءة من النفس، وقد أمر الله تعالى رسوله بالصفح الجميل، فقال عز من قائل: {.. فاصفح الصفح الجميل (85)} [الحجر] وهو الصفح مع تجافي ما يذكر بالإساءة.
تورط في حادثة الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طبع على الخير، لكنه فتن بما قيل وانساق خلف من روجوا لهذه الإشاعة، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سعة أبي بكر وفضله، لأن هذه الفتنة جعلت بعض أهل الخير يضن به... وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يقدر صنائع المعروف، وهذا الفعل يزهد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أن يصحح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعة الإيمان، لأن الذي يعصى الله فيك لا تكافئه إلا بأن تطيع الله فيه. وحين تترك من أساء إليك لعقاب الله وتعفو عنه أنت، فإنما تركته للعقاب الأقوى، لأنك إن عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإن تركت عقابه لله عاقبه بقدر طاقته تعالى وقدرته. إذن: العافي أقسى قلبا من المنتقم...
{أولوا الفضل منكم والسعة} يقول للصديق: أنت رجل فاضل صديق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تؤثر على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مسطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعوقب بحد القذف ثمانين جلدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك. ومن سماحة الإسلام أن من وقع في حد وعوقب به لا يجوز لأحد أن يعيره بذنبه، لأنه تاب وأناب وطهره الله منه بالحد، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه...
{وليعفوا وليصفحوا} العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تؤنبه...لذلك يحثنا ربنا- تبارك وتعالى- على الصفح بعد العفو، والصفح: ترك المن وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهون من عفوك عنه...
{ألا تحبون أن يغفر الله لكم} فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمن أساء إليك؟... {ألا} أداة للحض وللحث على هذا الخلق الطيب {والله غفور رحيم} فمن تخلق بأخلاق الله تعالى فليكن له غفران، وليكن لديه رحمة، ومن منا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.
كلمة «يأتل» مشتقّة من «أليّة» (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من «ألُو» (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن تعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله «الغفور» و«الرحيم».
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحد المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن «قوة الجذب»!