70- واترك - أيها النبي - الذين اتخذوا شريعتهم اللهو واللعب ، وخدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، وذَكِّر دائماً بالقرآن ، وحذرهم هول يوم تحبس فيه كل نفس بعملها ، حيث لا ناصر ولا معين غير الله ، وإن كل فدية للنجاة من العذاب لا تقبل . أولئك الكافرون الذين حبسوا في العذاب بسبب ما عملوا من شر ، لهم في جهنم شراب من ماء شديد الحرارة ، وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم .
{ 70 } { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
المقصود من العباد ، أن يخلصوا لله الدين ، بأن يعبدوه وحده لا شريك له ، ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه . وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه ، وكون سعي العبد نافعا ، وجدًّا ، لا هزلا ، وإخلاصا لوجه الله ، لا رياء وسمعة ، هذا هو الدين الحقيقي ، الذي يقال له دين ، فأما من زعم أنه على الحق ، وأنه صاحب دين وتقوى ، وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا . بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته ، وأقبل على كل ما يضره ، ولَهَا في باطله ، ولعب فيه ببدنه ، لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله ، فهو لعب ، فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر ، ولا يغتر به ، وتنظر حاله ، ويحذر من أفعاله ، ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله .
{ وَذَكِّرْ بِهِ } أي : ذكر بالقرآن ، ما ينفع العباد ، أمرا ، وتفصيلا ، وتحسينا له ، بذكر ما فيه من أوصاف الحسن ، وما يضر العباد نهيا عنه ، وتفصيلا لأنواعه ، وبيان ما فيه ، من الأوصاف القبيحة الشنيعة ، الداعية لتركه ، وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت ، أي : قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب ، واستمرارها على ذلك المرهوب ، فذكرها ، وعظها ، لترتدع وتنزجر ، وتكف عن فعلها .
وقوله { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } أي : قبل [ أن ] تحيط بها ذنوبها ، ثم لا ينفعها أحد من الخلق ، لا قريب ولا صديق ، ولا يتولاها من دون الله أحد ، ولا يشفع لها شافع { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أي : تفتدي بكل فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا { لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : لا يقبل ولا يفيد .
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بما ذكر { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي : أهلكوا وأيسوا من الخير ، وذلك { بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ماء حار قد انتهى حره ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينطلق فى تبليغ دعوته دون أن يشغل نفسه بسفاهة السفهاء ، وأن يذكر المعاندين بسوء مصيرهم فقال - تعالى - { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا . . . . } .
المعنى : واترك يا محمد هؤلاء الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذى كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا من تعاليمه واستهزأوا بها ، وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا إليها ، واشتغلوا بذاتها وزعموا أنه لا حياة بعدها .
ولم يقل - سبحانه - اتخذوا اللعب واللهو ديناً لأنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللعب واللهو دينا لهم ، وإنما هم عمدوا إلى أن ينتحلوا ديناً فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسموها ديناً .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : ومعنى ( ذرهم ) : أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم فى نظرك وزناً ، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه قال له بعده { وَذَكِّرْ بِهِ } وإنما المراد ترك معاشرتهم وملاطفهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم . . . ومعنى اتخاذ دينهم لعبا ولهوا ، أنهم اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم ، أو أن الكفار كانوا يحكمون فى دين الله بمجرد التشهى والتمنى مثل تحريم السوائب والبحائر ، ولم يكونوا يحتاطون فى أمر الدين ، بل كانوا يكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله عنهم لذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . وأنهم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال ابن عباس : جعل الله لكم قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله ، ثم إن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا أما المسلمين فإنم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله . . . " .
والضمير فى قوله { وَذَكِّرْ بِهِ } يعود إلى القرآن : وقد جاء مصرحا به فى قوله - تعالى - { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } وقوله { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أى : وذكر بهذا القرآن أو بهذا الدين الناس مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك ، أو تحبس أو ترتهن أو تفتضحن أو تحرم الثواب بسبب كفرها واغترارها بالحياة الدنيا ، واتخاذها الدين لعبا ولهوا .
ولفظ تبسل مأخوذ من البسل بمعنى المنع بالقهر أو التحريم أو الحبس ومنه أسد باسل لمنعه فريسته من الإفلات . وشراب بسيل أى متروك وهذا الشىء بسيل عليك أى محرم عليك .
ثم ين - سبحانه - أن هذه النفس المعرضة للحرمان ليس لها ما يدفع عنها السوء فقال : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } أى : ليس لهذه النفس من غير الله ناصر ينصرها ولا شفيع يدفع عنها ، ومهما قدمت من فداء فلن يقبل منها ، فالمراد بالعدل هنا الفداء فهو كقوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } قال الإمام الرازى : والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولى يتولى دفع ذلك المحذور عنها ، ولا شفيع يشفع فيها ، ولا فدية تقبل منها ليحصل الخلاص بسبب قبولها ، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع .
فإذا كانت وجوه الخلاص هى الثلاثة فى الدنيا وثبت أنها لا تفيد فى الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذى هو الارتهان والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله ، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصى الله " .
ثم ين - سبحانه - عاقبة أولئك الغافلين فقال : { أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
أى : أولئك الذين أسلموا للهلاك بسبب ما اكتسبوه فى الدنيا من أعمال قبيحة لهم شراب من حميم أى من ماء قد بلغ النهاية فى الحرارة يتجرجر فى بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم ، ولهم فوق ذلك عذاب مؤلم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهمن وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
يقول تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ؛ ولهذا قال : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : وذكر الناس بهذا القرآن ، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة .
وقوله : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : لئلا تبسل . قال الضحاك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن ، والسُّدِّي : تبسل : تُسْلَم .
وقال الوالبي ، عن ابن عباس : تفتضح . وقال قتادة : تُحْبَس . وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ . وقال الكلبي : تُجَازَي{[10832]}
وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير ، والارتهان عن درك المطلوب ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] .
وقوله : { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، كما قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] .
وقوله : { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : ولو بذلت كلّ مبذول ما قبل منها كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ]{[10833]} } [ آل عمران : 91 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } .
هذا أمر بالمتاركة{[4958]} وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ ، قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال ، وقال مجاهد : الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيد }{[4959]} وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ، وقوله { لعباً ولهواً } يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي ، { وغرتهم الحياة الدنيا } أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل ، فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج في { غرتهم } هنا وجه آخر من الغَرور بفتح الغين{[4960]} أي ملأت أفواههم وأشبعتهم ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ولما التَقَيْنَا بالحَنِيَّةِ غَرَّنِي . . . بِمَعْروفِهِ حتّى خَرَْجتُ أُفَوِّقُ{[4961]}
ومنه غر الطائر فرخه ، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر » وفي كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً ، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً ، والضمير في { به } عائد على الدين ، وقيل : على القرآن ، و { أن تبسل } في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل ، ومعناه تسلم ، قال الحسن وعكرمة ، وقال قتادة : تحبس وترتهن ، وقال ابن عباس : تفضي ، وقال الكلبي وابن زيد : تجزى ، وهذه كلها متقاربة بالمعنى{[4962]} ، ومنه قول الشنفرة : [ الطويل ]
هنالك لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي . . . سَمِيرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِرِ{[4963]}
وقال بعض الناس هو مأخوذ من البَسَل أي من الحرام كما قال الشاعر [ ضمرة النهشاني ] : [ الكامل ]
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بِعْدَ وَهْنٍ في النَّدَى . . . بَسل عَلَيْك مَلامَتِي وعِتابي{[4964]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و { نفس } تدل على الجنس ، ومعنى الآية : وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام ، وقوله تعالى : { ليس لها من دون الله } في موضع الحال ، و { من } لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة و { دون } ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك ، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل :
وأمر دون عبيدة الودم{[4965]} . .
والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور { وإن تعدل كل عدل } أي وإن تعط كل فدية ، وإن عظمت فتجعلها عدلاً لها لا يقبل منها ، وحكى الطبري عن قائل : ان المعنى : وإن تعدل من العدل المضاد للجور ، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة .
قال القاضي أبو محمد : ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل ، والقول نص لأبي عبيدة ، و «العدل » في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه ، وقبل : العِدل بالكسر المثل والعَدل بالفتح القيمة ، و { أولئك } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله { تبسل نفس } ، و { ابسلوا } معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر ، و «الحميم » الماء الحار ، ومنه الحمام والحمة{[4966]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا الحَميمَ فإنَّه يَتَبَصَّعُ{[4967]}
عطف على جملة : { فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] أو على جملة : { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 69 ] . وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه . وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهاراً في مقام الإضمار .
و { ذرْ } فعل أمر . قيل : لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول . فتصاريفه هذه مماتة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادّة ترك تجنّباً للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه . وجعله علماء التصريف مثالاً واوياً لأنَّهم وجدوه محذوف أحد الأصول ، ووجدوه جارياً على نحو يَعِد ويَرث فجزموا بأنّ المحذوف منه الفاء وأنَّها واو . وإنَّما حذفت في نحو ذَرْ ودَعْ مع أنَّها مفتوحة العين اتِّباعاً للاستعمال ، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل ، بخلاف حذف يَعِد ويَرث .
ومعنى : ( ذَر ) اترك ، أي لا تخالط . وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلَّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى : { ذَرْني ومن خلقتُ وحيداً } [ المدثر : 11 ] ، وقوله : { فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث } ، وقول طرفة :
فذَرْنِي وخُلْقي إنَّنِي لَك شاكر *** ولو حلّ بيتِي نَائِياً عند ضَرْغد
أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم ، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به ، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم .
والدّين في قوله : اتَّخذوا دينهم } يجوز أن يكون بمعنى الملَّة ، أي مايتديَّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله ، كقول النابغة :
مجلّتهم ذات الإله ودينُهم *** قَويم فما يرجُون غيرَ العَوَاقِب
أي اتَّخذُوه لعباً ولهواً ، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو ، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها ، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية } [ الأنفال : 35 ] .
وإنَّما لم يقل اتَّخذوا اللهو واللعب ديناً لمكان قوله : { اتَّخذوا } فإنَّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب ديناً لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا ديناً فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها ديناً .
ويجوز أن يكون المراد من الدّين العادة ، كقول المُثقّب العبدي :
تَقول وقد دَرَأتُ لها وَظِينِي *** أهَذَا دينُه أبَداً ودينِي
أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ ، وذلك في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو } في هذه السورة [ 32 ] .
والذين اتَّخذوا دينهم لعباً ولهواً فريق عُرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم ، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات ؛ فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلَّهم بناء على تفسير الدين بالملَّة والنِّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق .
وهذا يناسب تفسير { ذَرْ } بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم ، أي وذكِّرْهم بالقرآن ، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقاً من المشركين سفهاء اتَّخذوا دأبهم اللعب واللهو ، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي .
{ وغَرّتْهم } أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنّوا أنّها لا حياة بعدها وأنّ نعيمها دائم لهم بطراً منهم . وتقدّم تفسير الغرور عند قوله تعالى : { لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] .
وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة ، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا : { إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } [ الأنعام : 29 ] .
والضمير المجرور في { وذكِّر به } عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب . وذلك إنَّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام ، ويدل عليه قوله تعالى : { فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد } [ ق : 45 ] . وحذف مفعول { ذكّر } لدلالة قوله : { وذرِ الذين اتَّخذُوا دينهم لعباً ولهواً } أي وذكِّرْهم به .
وقوله : { أنْ تُبْسَل نفس } يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لِ { ذكّرْ } وهو الأظهر ، أي ذكِّرْهم به إبسال نفس بما كسبت ، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما « هم » و { أن تبسل نفس } . وخُصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل . ويجوز أن يكون { أن تُبْسل } على تقدير لام الجرّ تعليلاً للتذكير ، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة . والتقدير : لِئلاّ تبسل نفس ، كقوله تعالى : { يبيّن الله لكم أن تضلّوا } ، وقد تقدّم في آخر سورة [ النساء : 176 ] . وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج .
ووقع لفظ ( نفس ) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة ، كقوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْس ما قدّمَتْ وأخَّرَتْ } [ الأنفطار : 5 ] أي كلّ نفس علمت نفس ما أحْضَرَتْ ، أي كلّ نفس .
والإبسال : الإسلام إلى العذاب ، وقيل : السجنُ والارتهان ، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا . وأصله من البَسْل وهو المنع والحرام . قال ضمرة النهشلي :
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بعد وَهْن في النَّدى *** بَسْل عليكِ مَلاَمَتِي وعِتَابِي
وأمَّا الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبْسَالِي بَنِيّ بغير جُرْم *** بَعَوْنَاهُ ولا بِدَم مُرَاق
ومعنى : { بما كسبت } بما جنت . فهو كسب الشرّ بقرينة { تبسل } .
وجملة : { ليس لها من دون الله } الخ في موضع الحال من { نفس } لعموم { نفس } ، أو في موضع الصفة نظراً لكون لفظه مفرداً .
والوليّ : الناصر . والشفيع : الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب . وقد تقدّم الولي عند قوله تعالى : { قُلْ أغير الله أتَّخِذُ ولِيّاً } في هذه السورة [ 14 ] ، والشفاعة عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } في سورة [ البقرة : 48 ] .
وجملة : وإنْ تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها } عطف على جملة { ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع } . و { تَعْدلْ } مضارع عَدَل إذا فدى شيئاً بشيء وقدّره به . فالفداء يسمَّى العدل كما تقدّم في قوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } في سورة [ البقرة : 48 ] .
وجيء في الشرط { بإنْ } المفيدة عدم تحقّق حصول الشرط لأنّ هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال .
والعدْل في قوله : { كلّ عدْل } مصدر عدل المتقدّم . وهو مصدره القياسي فيكون { كلّ } منصوباً على المفعولية المطلقة كما في « الكشَّاف » ، أي وإن تُعط كلّ عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به ل { تعدل } لأنّ فعل ( عَدل ) يتعدّى للعوض بالباء وإنَّما يتعدّى بنفسه للمعوّض وليس هو المقصود هنا . فلذلك منع في « الكشَّاف » أن يكون { كلّ عدل } مفعولاً به ، وهو تدقيق . و { كُلّ } هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل ، أي للفداء حصر حتّى يحاط به كلّه . وقد تقدّم استعمال ( كلّ ) بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى : { ولئِن أتَيتَ الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية } في سورة [ البقرة : 145 ] .
وقوله : { لا يؤخذ منها } أي لا يؤخذ منها ما تعدل به . فقوله : { منها } هو نائب الفاعل ل { يؤخذ } . وليس في { يؤخذ } ضمير العدل لأنَّك قد علمت أنّ العدل هنا بمعنى المصدر ، فلا يسند إليه الأخذ كما في « الكشاف » ، فقد نزّل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول كأنَّه قيل : لا يؤخذ منها أخْذ . والمعنى لا يؤخذ منها شيء . وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلّص به من القهر والغلب ، وهو الناصر والشفيع والفدية . فهي كقوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } في سورة [ البقرة : 48 ]
وجملة : { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ الكلام يثير سؤال سائل يقول : فما حال الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً من حال النفوس التي تُبْسَل بما كسبت ، فأجيب بأنّ أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا ، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة ، والتعريف للجزأين أفادَ القصر ، أي أولئك هم المبسَلُون لا غيرهم . وهو قصر مبالغة لأنّ إبسالهم هو أشدّ إبسال يقع فيه الناس فجُعل ما عداه كالمعدوم .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله : { أن تُبسل نفس } باعتبار دلالة النكرة على العموم ، أي أنّ أولئك المبسَلون العادمون وليّاً وشفيعاً وقبولَ فديتهم هم الذين إبسلوا بما كسبوا ، أي ذلك هو الإبسال الحقّ لا ما تعرفونه في جَرَائركم وحروبكم من الإبسال ، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدّم آنفاً في شعره ، فهذا كقوله تعالى : { ذلك يوم التغابن } [ التغابن : 9 ] .
وجملة { لهم شراب من حميم } بيان لمعنى الإبسال أو بدَل اشتمال من معنى الإبسال ، فلذلك فصلت .
والحميم : الماء الشديد الحرارة ، ومنه الحَمة بفتح الحاء العينُ الجارية بالماء الحارّ الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل . وفي الحديث : « مَثَل العالم مثل الحَمَّة يأتيها البعداء ويتركها القرباء » . وخصّ الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنَّهم يعطشون فلا يشربون إلاّ ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش .
والباء في { بما كانوا يكفرون } للسببية ، و ( ما ) مصدرية .
وزيد فعل ( كان ) ليدلّ على تمكّن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأنّ فعل مادّة الكَوْن تدلّ على الوجود ، فالإخبار به عن شيء مخبَر عنه بِغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنَّه أفاد الوجود في الزمن الماضي ، وذلك مستعمل في التمكّن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وذر الذين اتخذوا دينهم} الإسلام {لعبا}: باطلا، {ولهوا}: لهوا عنه، {وغرتهم الحياة الدنيا}، عن دينهم الإسلام، {وذكر به}: وعِظ بالقرآن، {أن تبسل نفس}: لئلا تبسل نفس، {بما كسبت}: بما عملت من الشرك والتكذيب، فترتهن بعملها في النار، {ليس لها من دون الله ولي}، يعني قريبا ينفعهم، {ولا شفيع} في الآخرة يشفع لهم، {وإن تعدل}، يعني فتفتدي هذه النفس المرتهنة بعملها، {كل عدل}، فتعطي كل فداء ملء الأرض ذهبا، {لا يؤخذ منها}: لا يقبل منها، {أولئك} يعنيهم، {الذين أبسلوا}: حبسوا في النار، {بما كسبوا لهم شراب من حميم}: النار التي قد انتهى حرها، {وعذاب أليم}: وجيع، {بما كانوا يكفرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذر هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبا ولهوا، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ونسيانهم المدار إلى الله تعالى والمصير إليه بعد الممات... وقد نسخ الله تعالى هذه الآية بقوله:"فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ".
"وَذَكّر بِهِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ": وذكر يا محمد بهذا القرآن هؤلاء المولين عنك وعنه "أن تُبْسَل نَفْسٌ": أن لا تبسل، كما قال: "يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا "بمعنى: أن لا تضلوا. وإنما معنى الكلام: وذكر به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحقّ، فلا تُبْسَل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت «لا» لدلالة الكلام علها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تحبس.
وأصل الإبسال: التحريم، يقال منه: أبسلت المكان: إذا حرمته فلم تقر به ومنه. ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يُتحامى لشدّته، ويقال: أعط الراقي بُسْلَتَهُ، يراد بذلك: أجرته، شراب بسيل: بمعنى متروك، وكذلك المبسل بالجريرة، وهو المرتهن بها، قيل له مبسل لأنه محرّم من كلّ شيء إلا مما رهن فيه وأسلم به... فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين، كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله "ليس لها من دون الله"، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها "ولا شفيع"، يشفع لها، لوسيلة له عنده.
"وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها": وَإنْ تَعْدِل النفس التي أبسلت بما كسبت: كلّ فداء، يقال منه: عَدَلَ يعدِلُ: إذا فدى، عَدْلاً. ومنه قول الله تعالى ذكره: "أوْ عَدْلُ ذلكَ صِياما "وهو ما عادله من غير نوعه.
عن قتادة: "وَإنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها" قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يُقبل منها.
وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تَقْسِط كلّ قِسْط لا يُقبل منها وقال إنها التوبة في الحياة. وليس لما قال من ذلك معنى، وذلك أن كلّ تائب في الدنيا فإن الله تعالى يقبل توبته.
"أُولَئِكَ الّذِينَ أُبْسَلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ": وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كلّ فداء لم يؤخذ منهم، هم "الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا": أُسلِموا لعذاب الله، فرُهنوا به جزاء بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار. "لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ" والحميم: هو الحارّ في كلام العرب، وإنما هو محموم صُرف إلى فعيل، ومنه قيل للحمّام: حمام، لإسخانه الجسم... وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابا من حميم، لأن الحارّ من الماء لا يُروِي من عطش، فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم، ولكن بما يزيدون به عطشا على ما بهم من العطش. "وعَذَابٌ ألِيمٌ": ولهم أيضا مع الشراب الحميم من الله العذاب الأليم والهوان المقيم.
"بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ": بما كان من كفرهم في الدنيا بالله وإنكارهم توحيده وعبادتهم معه آلهة دونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي: وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا؛ على التقديم والتأخير.
والثاني: اتخذوا اللعب واللهو دينهم؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللهو؛ لأن الدِّين إنما يتخذ للأبد، فعلى ذلك اتخذ أُولَئِكَ اللعب واللهو للأبد كالدِّين.
أحدها: اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم، ومن عبد من هذا وصفه، واتخذ ذلك دينا -فهو عابث لاعب.
والثاني: اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم، ودعتهم الشياطين إليه، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه، وما دعته نفسه إليه- فهو عابث لاعب.
والثالث: صار دينهم لعبًا وعبثًا؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل؛ كقوله -تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا...) الآية، صير عدم الرجوع إليه عبثًا.
وقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
أي: شغلهم ما اختاروا من الحياة الدنيا والميل إليها عن النظر في الآيات والبراهين والحجج.
أو أن يكون قوله: (وَغَرَّتْهُمُ)، أي: اغتروا بالحياة الدنيا؛ أضاف التغرير إلى الحياة الدنيا لما بها اغتروا، واللَّه أعلم.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ).
قيل: وذكر به قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وإنَّمَا يذكرهم بهذا لئلا يقولوا غدًا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
وأصل الإبسال: الإهلاك، أو الإسلام للجناية والهلاك. وأصل الإبسال: هو الإسلام، وتفسيره ما ذكر على أثره، وهو قوله: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)؛ كما يكون بعضهم شفيعًا لبعض في الدنيا، وأعوانًا لهم وأنصارًا في دفع المضار والمظالم عنهم وجر المنافع إليهم، وأما في الآخرة: فإن كل نفس تسلم بما كسبت، لا شفيع لها ولا ولي؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).
وكقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً)، وغير ذلك من الآيات تسلم كل نفس إلى كسبها لا شفيع لها ولا ولي.
وقوله: (وَذَكِّرْ بِهِ)، يحتمل بالقرآن والآيات ويحتمل (بِهِ)، أي: باللَّه، أي: عظ به أن تهلك نفس بما كسبت.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: العدل: الفداء؛ يقول: وإن فدت نفس كل الفداء لتتخلص مما حل بها، لم يؤخذ منها ولم يقبل منها ذلك.
وقال الحسن: العدل: كل عمل البر والخير، أي: وإن عملت كل عمل البر والخير من الفداء والتوبة، لم يقبل منها ذلك؛ يخبر أن الدار الآخرة ليست بدار العمل، ولا يقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا، وأخبر ألا يكون شفعاء يشفعون لهم، ولا أولياء ينصرونهم، ليس كالدنيا؛ لأن من أصابه في هذه الدنيا شيء، أو حل به عذاب أو غرامة- فإنما يدفع بإحدى هذه الخلال الثلاثة، إما بشفعاء يشفعونه، أو بأولياء ينصرونه، أو بالرشا، فأخبر أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا، فتدفع ما حل بهم، أو أولياء ينصرونهم في دفع ذلك عنهم، أو شفعاء يشفعونهم.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى ذكر العدل والفداء، وليس عنده ما يفدي ولا يبذل وما يمكَّن من العمل؟
قيل: معناه -واللَّه أعلم- أي: لو مكن لهم من الفداء ما يفدون في دفع ذلك عن أنفسهم، ومكن لهم من العمل ما لو عملوا، لم يقبل ذلك منهم.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا).
قد ذكرنا الاختلاف في الإبسال، وأصله: الإسلام يسلمون لما اكتسبوا لا يكون لهم شفعاء ولا أولياء، ولا يقبل منهم الرشا.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ).
قيل: الحميم: هو ماء حار قد انتهى حره يغلي ما في البطن إذا وصل إليه، فيشبه أن يكون لهم من الشراب ما ذكر؛ لما تناولوا في الدنيا من الشراب المحرم، فكان لهم في الآخرة الحميم مكان ذلك، والعذاب الأليم؛ لما أعطوا أنفسهم في الدنيا من الشهوات واللذات جزاء ذلك.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} باطلاً وفرحاً {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وذلك أن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم إتخذوا عيدهم لهواً ولعباً، إلاّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة للّه. وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر، {وَذَكِّرْ بِهِ} وعظ بالقرآن {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. أو اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزأوا...ومعنى «ذرهم» أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم،... والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال: بسر الرجل إذا اشتد عبوسه. فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس: منقبض الوجه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر بالمتاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ، قال قتادة: ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد: الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيد} وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد، وقوله {لعباً ولهواً} يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي، {وغرتهم الحياة الدنيا} أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل، فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته. ويتخرج في {غرتهم} هنا وجه آخر من الغَرور بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم،... ومنه غر الطائر فرخه، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر»، وفي كل موضع، وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً، والضمير في {به} عائد على الدين، وقيل: على القرآن،... و «العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه، وقبل: العِدل بالكسر المثل والعَدل بالفتح القيمة،
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله: {الذين يخوضون في آياتنا} ومعنى {ذرهم} أعرض عنهم، وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده: {وذكر به} ونظيره قوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم} والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم. واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفا بصفتين: الصفة الأولى: أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وفي تفسيره وجوه:
الأول: المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزأوا به.
الثاني: اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم.
الثالث: أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني، مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة، ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا.
والرابع: قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى. ثم إن الناس أكثرهم من المشركين، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى.
والخامس: وهو الأقرب، أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب. فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة. والله أعلم.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وغرتهم الحياة الدنيا} وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعبا ولهوا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا. فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا. إذا عرفت هذا، فقوله: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا تقم لهم في نظرك وزنا، والمقصود من هذه الآية: بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة، فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور، ولا شفيع يشفع فيها، ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها، حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا، وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة، وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام، فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى. ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين، فقال {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} وذلك هو النهاية في صفة الإيلام. والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أبرز هذا الأمر في صيغة النهي، أعاده بصيغة الأمر اهتماماً به وتأكيداً له، وأظهر لهم وصفاً آخر هو غاية الوصف الأول مع ما ضم إليه من الإرشاد إلى الإنقاذ من المعاطب فقال: {وذر} أي اترك أي ترك كان ولو كان على أدنى الوجوه {الذين اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم في اتباع الهوى بمخالفة العقل المستقيم والطبع الفطري السليم بأن أخذوا {دينهم} على نمط الأسخف من دنياهم؛ ولما كان الدين ملكة راسخة في النفس، ولا شيء من كيفيات النفس أرسخ منها ولا أثبت، وهو أشرف ما عند الإنسان، وكان اللعب ضده لا شيء أسرع من انقضائه ولا أوهى من بنائه، قال ذامّاً لهم بأنهم بدلوا مقصود هذه السورة -الذي هو من الاستدلال على التوحيد الذي لا أشرف منه مطلقاً ولا أعلى ولا أنفس بوجه ولا أحلى- بما لا أدنى منه ولا أوهى ولا أمحق للمروءة ولا أدهى: {لعباً} ولما كان ربما قيل: إنهم إذا انقضى اللعب عادوا إلى الاشتغال بالدين، أتبعه الباعث عليه إشارة إلى أنه كلما ملوا اللعب بعثوا النفوس إليه باللهو كما ترى الراقص كلما فتر في رقصه بعثوه عليه بتقوية اللهو أو الانتقال من فن إلى آخر من فنونه وشأن بديع من شؤونه فقال: {ولهواً} أي في الاستهزاء بالدين الحق بالمكاء والتصدية وبالبحائر والسوائب وغير ذلك، فلا تبال بهم ولا يشغل قلبك بهم {وغرتهم} أي خدعتهم {الحياة الدنيا} التي هم من أعرف الناس بزوالها، وأن كل من بها هالك، فمنَتْهم النعم التي منَّ عليهم سبحانه بها فيما لا ينالونه من السعادة إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ولما كان ربما أفهم ذلك تركهم في كل حالة، نفاه بقوله: {وذكر به} أي تحديث الآيات، وهي القرآن المتجدد إنزاله، والضمير في الحقيقة للآيات، أي دعهم يفعلوا ما أرادوا، لا تبال بشيء من ذلك، ولا تترك وعظّهم بهذا القرآن، أي ما عليك إلا البلاغ، لم نكلفك في هذه الحالة أكثر منه {أن تبسل} قال في المجمل: البسل: النخل، وأبسلته: أسلمته للهلكة، فالمعنى: كراهة أن تخلي وتسلم {نفس بما} أي بسبب ما {كسبت} في دنياها كائنة {ليس لها من دون الله} أي المنفرد بالعظمة {ولي} أي يتولى نصرها {ولا شفيع} ينقذها بشفاعته.
ولما كان الفداء من اسباب الخلاص قال: {وإن تعدل} أي تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك {كل عدل} أي كل شيء يظن أنه يعدلها ولو كان أنفس شيء؛ " ولما "كان الضار عدم الأخذ، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: {لا يؤخذ منها} ولما أنتج ذلك قطعاً أن من هذا حاله هالك، قال: {أولئك} أي الذين عملوا هذه الأعمال البعيدة عن الخير {الذين أبسلوا} أي أسلموا {بما كسبوا} ثم استأنف قوله: {لهم شراب من حميم} أي هو في غاية الحر يصهر به ما في بطونهم، بما اعتقدوا في الآيات ما ظهر على ألسنتهم {وعذاب أليم} أي يعم دائماً ظواهرهم وبواطنهم بما ظهر عليهم من ذلك بعد ما بطن {بما} أي بسبب ما {كانوا يكفرون} أي يجددون من تغطية الآيات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أشرنا في تفسير الآية السابقة إلى أن جعل هذه الآية في جماعة المتقين تدل على أنهم هم المرادون فيما قبلها بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم من دونه ويؤكده الرجوع إلى الخطاب في قوله: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا} [الأنعام: 70] تقدم تفسير اللعب واللهو ونكتة تقديم أحدهما على الآخر في تفسير الآية 32 (ج 7) والمعنى هنا: ودع أيها الرسول- ومثله فيه من تبعه من المؤمنين- الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا من هؤلاء المشركين وهم المقصودون أولا وبالذات، ومثلهم كل من يعمل على شاكلتهم من المؤمنين وأهل الكتاب، وغرتهم الحياة الدنيا الفانية فآثروها على الحياة الآخرة الباقية، بل أنكرها المشركون، ولم يستعد لها الفاسقون. أما اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ففيه وجوه: المتبادر منها أن أعمال دينهم التي يعملونها لما لم تكن مزكية للأنفس ولا مهذبة للأخلاق، ولا واقعة على الوجه الذي يرضي الرحمن، ويعد المرء للقائه في دار الكرامة والرضوان، ولا مصلحة لشؤون الاجتماع والعمران، كانت إما صرفا للوقت فيما لا فائدة فيه وهو معنى اللعب، وإما شاغلة عن بعض الهموم والشؤون وهو اللهو. ويظهر في أعمال الدين الاجتماعية كالمواسم والأعياد، وقد روي القول به عن ابن عباس، قال: جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى، ثم إن الناس أكثرهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى اه وهو يريد أن هذا مما تدل عليه الآية لا أنه كل المراد منها، وهذا أحد وجوه خمسة ذكرها الرازي في الآية وجعله الرابع...
أقول كان ينبغي أن يذكر نحوا من هذا في تفسير {وغرتهم الحياة الدنيا} [الأنعام: 70] وقد جعل هو هذه الجملة مؤيدة له وجعله هو المراد من اللعب واللهو، ذاهلا عن كونه لا يظهر في كفار قريش الذين قصدوا به أولا وبالذات. والوجه الأول اعتمده المتأخرون وفيه أنه مخالف لقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] وقوله: {الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا} فالله تعالى لا يضيف دين الإسلام إلى الكفار. ومعنى غرتهم الحياة الدنيا أنها خدعتهم وأغفلتهم عن أنفسهم وما هي مستعدة له من الكمال، وعن كون البعث حقا والعدم المحض من المحال، فاشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج القيمة والآيات البينات، فاستبدلوا الخوض فيها، بما كان يجب من فقهها وتدبرها.
وهذا الأمر بترك هؤلاء المغرورين قد جاء على سبيل التهديد كقوله: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} [الحجر: 3] وهو تهديد بعذاب الدنيا بدليل قوله بعده: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم* ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} [الحجر: 4، 5] وورد مثله بعذاب الآخرة (43: 83 و 70: 42) وقيل المراد به الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم وأنه نسخ بآية القتال، روي عن قتادة وضعفه المحققون. وإذا لم يتضمن معنى التهديد كان معناه ذرهم ولا تهتم بخوضهم ولا تكذيبهم وعليك ما كلفته وحملته من تبليغ دعوة ربك، وذلك قوله عز وجل:
{وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت} البسل مصدر بسله يطلق بمعنى حبس الشيء ومنعه بالقهر وبمعنى الرهن والإباحة، وأبسل الشيء كبسله أسلمه للهلاك ومنه أسد باسل ورجل باسل أي شجاع ممتنع على أقرانه أو مانع لما يريد حفظه أن ينال. والضمير في قوله: « به» للقرآن المعلوم بقرينة الحال لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر، وبقرينة النقال كقوله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45] والقرآن يفسر بعضه بعضا كما قالوا. وروي عن ابن عباس ثلاثة أقوال في معنى الإبسال- الفضيحة، والإسلام للهلاك والحبس في النار...
والمعنى وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس في الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها في العذاب أو إسلامها إليه أو منعها من نعيم الجنة وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة، ويؤيد التقدير الأول قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} [المدثر: 38، 39] الآية- وقدر بعض المفسرين: مخافة أو كراهة أن تبسل، وبعضهم: لئلا تبسل.
ثم وصف تعالى النفس المبسلة أو علل إبسالها بقوله: {ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} أي ليس لها من غير الله ولي أي ناصر ينصرها، أو قريب يتولى أمرها، ولا شفيع يشفع لها عند الله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} [غافر: 18] في يوم وصفه تعالى بقوله: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} [البقرة: 253] والأمر فيه لله وحده {قل لله الشفاعة جميعا} [الزمر: 45] – {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 254] -{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ:24] – {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] فكل نفس تأتيه في ذلك اليوم وهو تعالى غير راض عنها فهي مبسلة بما كسبت من سيء عملها.
{وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} العدل بالفتح ما عادل الشيء وساواه من غير جنسه كما تقدم في تفسير {أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 98]، وهو هنا بمعنى الفداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله كما قال الزمخشري، وعدل هذا يتعدى إلى المفعول به بالباء كما قال في أول هذه السورة {بربهم يعدلون} [الأنعام: 1] فكل عدل منصوب هنا على المصدرية لا المفعولية والمعنى: وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها- أي لا يقع الأخذ منها ولا يحصل – فهو على حد أكل من القصعة، وسير من البلد لأن العدل وهو مصدر لا يؤخذ أخذا، ويجوز أن يتضمن الأخذ معنى القبول وأن يعاد الضمير على العدل وهو الفداء بمعنى المفدى به وإن عد هنا من قبيل الاستخدام. وقد استعمل العدل في سورة البقرة بمعنى المعدول به أي الفدية وأسند إلى الأخذ وإلى القبول، قال {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة: 47] وقال: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} [البقرة: 122] والمراد من هذه الآيات وما في معناها إبطال أصل من أصول الوثنية وهو تعليق النجاة في الآخرة (كنيل كثير من المقاصد في الدنيا) بتقديم الفدية أو بشفاعة الشافعين، وتقرير أصل الدين الإلهي وهو أن النجاة في الآخرة ورضوان الله والقرب منه لا تنال إلا بما شرعه الله على ألسنة رسله من الإيمان والإسلام- وبعبارة أخرى بالعمل الصالح الذي تتزكى به الأنفس مع الإيمان الإذعاني بالله وبرسله وما جاؤوا به، ومن أبسلهم كسبهم للسيئات والخطايا واتخاذهم الدين لعبا ولهوا وغرورهم بالحياة الدنيا فلا تنفعهم شفاعة ولا تقبل منهم فدية.
{أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين أسلموا للهلكة وارتهنوا وحبسوا عن دار السعادة بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه لعبا ولهوا ما يزجرهم عنها. وماذا يكون جزاؤهم بعد الإبسال؟ {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)} أي لهم شراب من ماء حميم وهو الشديد الحرارة- ويطلق على الشديد البرودة أيضا- وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم، الذي ظلوا مستمرين عليه طول حياتهم، حتى صرفهم عما جعله الله تعالى- لو اتبعوه- سبب نجاتهم. أو التقدير: أولئك المبسلون بكسبهم لهم شراب من حميم وعذاب أليم باستمرارهم على كفرهم. وبهذا ظهر الفرق بين التعليل الأول بالكسب والتعليل الثاني بالكفر فالأول ذكر بصيغة الماضي والثاني بصيغة المستقبل الدال على الاستمرار. فلولا رسوخهم في الكفر الذي أفسد فطرتهم حتى أصروا عليه إصرارا دائما دل على أنه لم يبق فيهم استعداد للحق والخير لما كان مجرد كسب بعض السيئات المنقطعة ينهض سببا لهلاكهم ووقوعهم في هذا العذاب كله. وفي الآية أكبر العبر لمن يفقه الكلام، ولا يغتر بلقب الإسلام، فإنما المسلم من اتخذ إمامه القرآن وسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، لا من اغتر بالأماني والأوهام، وانخدع بالرؤى والأحلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونقف من الآية أمام عدة أمور: أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وينسحب الأمر على كل مسلم -مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا.. وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل.. فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة، وخلقا وسلوكا، وشريعة وقانونا، إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا.. والذي يتحدث عن مبادى ء هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو. كالذين يتحدثون عن "الغيب"- وهو أصل من أصول العقيدة -حديث الاستهزاء. والذين يتحدثون عن "الزكاة "وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار. والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة- وهي من مبادى ء هذا الدين -بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية، أو الإقطاعية، أو "البرجوازية" الزائلة! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار. والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها "أغلال!".. وقبل كل شيء وبعد كل شيء.. الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية.. السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية.. ويقولون: إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله... أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا. وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى. وبأنهم الظالمون- أي المشركون -والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم لما كانوا يكفرون.. وثانيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وينسحب الامر على كل مسلم- مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا -أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. ومعنى: (ذَر) اترك، أي لا تخالط. وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلَّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى: {ذَرْني ومن خلقتُ وحيداً} [المدثر: 11]، وقوله: {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث}..أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم.
والدّين في قوله: اتَّخذوا دينهم} يجوز أن يكون بمعنى الملَّة، أي ما يتديَّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله..
أي اتَّخذُوه لعباً ولهواً، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية} [الأنفال: 35].
وإنَّما لم يقل اتَّخذوا اللهو واللعب ديناً لمكان قوله: {اتَّخذوا} فإنَّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب ديناً لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا ديناً فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها ديناً...
... أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ، وذلك في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو} في هذه السورة [32].
والذين اتَّخذوا دينهم لعباً ولهواً فريق عُرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات؛ فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلَّهم بناء على تفسير الدين بالملَّة والنِّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق.
وهذا يناسب تفسير {ذَرْ} بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم، أي وذكِّرْهم بالقرآن، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقاً من المشركين سفهاء اتَّخذوا دأبهم اللعب واللهو، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي.
{وغَرّتْهم} أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنّوا أنّها لا حياة بعدها وأنّ نعيمها دائم لهم بطراً منهم. وتقدّم تفسير الغرور عند قوله تعالى: {لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد} في سورة [آل عمران: 196].
وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا: {إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29].
والضمير المجرور في {وذكِّر به} عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب. وذلك إنَّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام، ويدل عليه قوله تعالى: {فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45]. وحذف مفعول {ذكّر} لدلالة قوله: {وذرِ الذين اتَّخذُوا دينهم لعباً ولهواً} أي وذكِّرْهم به.
وقوله: {أنْ تُبْسَل نفس} يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لِ {ذكّرْ} وهو الأظهر، أي ذكِّرْهم به إبسال نفس بما كسبت، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما « هم» و {أن تبسل نفس}. وخُصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل. ويجوز أن يكون {أن تُبْسل} على تقدير لام الجرّ تعليلاً للتذكير، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة. والتقدير: لِئلاّ تبسل نفس، كقوله تعالى: {يبيّن الله لكم أن تضلّوا}، وقد تقدّم في آخر سورة [النساء: 176]. وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.
ووقع لفظ (نفس) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْس ما قدّمَتْ وأخَّرَتْ} [الانفطار: 5] أي كلّ نفس علمت نفس ما أحْضَرَتْ، أي كلّ نفس.
والإبسال: الإسلام إلى العذاب، وقيل: السجنُ والارتهان، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا. وأصله من البَسْل وهو المنع والحرام...
... ومعنى: {بما كسبت} بما جنت. فهو كسب الشرّ بقرينة {تبسل}.
وجملة: {ليس لها من دون الله} الخ في موضع الحال من {نفس} لعموم {نفس}، أو في موضع الصفة نظراً لكون لفظه مفرداً.
والوليّ: الناصر. والشفيع: الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب. وقد تقدّم الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أغير الله أتَّخِذُ ولِيّاً} في هذه السورة [14]، والشفاعة عند قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل} في سورة [البقرة: 48].
وجملة: وإنْ تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها} عطف على جملة {ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع}. و {تَعْدلْ} مضارع عَدَل إذا فدى شيئاً بشيء وقدّره به. فالفداء يسمَّى العدل كما تقدّم في قوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} في سورة [البقرة: 48].
وجيء في الشرط ب"إنْ" المفيدة عدم تحقّق حصول الشرط لأنّ هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال.
والعدْل في قوله: {كلّ عدْل} مصدر عدل المتقدّم. وهو مصدره القياسي فيكون {كلّ} منصوباً على المفعولية المطلقة كما في « الكشَّاف»، أي وإن تُعط كلّ عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به ل {تعدل} لأنّ فعل (عَدل) يتعدّى للعوض بالباء وإنَّما يتعدّى بنفسه للمعوّض وليس هو المقصود هنا. فلذلك منع في « الكشَّاف» أن يكون {كلّ عدل} مفعولاً به، وهو تدقيق. و {كُلّ} هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل، أي للفداء حصر حتّى يحاط به كلّه. وقد تقدّم استعمال (كلّ) بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى: {ولئِن أتَيتَ الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية} في سورة [البقرة: 145].
وقوله: {لا يؤخذ منها} أي لا يؤخذ منها ما تعدل به. فقوله: {منها} هو نائب الفاعل ل {يؤخذ}. وليس في {يؤخذ} ضمير العدل لأنَّك قد علمت أنّ العدل هنا بمعنى المصدر، فلا يسند إليه الأخذ كما في « الكشاف»، فقد نزّل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول كأنَّه قيل: لا يؤخذ منها أخْذ. والمعنى لا يؤخذ منها شيء. وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلّص به من القهر والغلب، وهو الناصر والشفيع والفدية. فهي كقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} في سورة [البقرة: 48]
وجملة: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ الكلام يثير سؤال سائل يقول: فما حال الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً من حال النفوس التي تُبْسَل بما كسبت، فأجيب بأنّ أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة، والتعريف للجزأين أفادَ القصر، أي أولئك هم المبسَلُون لا غيرهم. وهو قصر مبالغة لأنّ إبسالهم هو أشدّ إبسال يقع فيه الناس فجُعل ما عداه كالمعدوم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أن تُبسل نفس} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أنّ أولئك المبسَلون العادمون وليّاً وشفيعاً وقبولَ فديتهم هم الذين إبسلوا بما كسبوا، أي ذلك هو الإبسال الحقّ لا ما تعرفونه في جَرَائركم وحروبكم من الإبسال، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدّم آنفاً في شعره، فهذا كقوله تعالى: {ذلك يوم التغابن} [التغابن: 9].
وجملة {لهم شراب من حميم} بيان لمعنى الإبسال أو بدَل اشتمال من معنى الإبسال، فلذلك فصلت.
والحميم: الماء الشديد الحرارة، ومنه الحَمة بفتح الحاء العينُ الجارية بالماء الحارّ الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل. وفي الحديث: « مَثَل العالم مثل الحَمَّة يأتيها البعداء ويتركها القرباء». وخصّ الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنَّهم يعطشون فلا يشربون إلاّ ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش.
والباء في {بما كانوا يكفرون} للسببية، و (ما) مصدرية.
وزيد فعل (كان) ليدلّ على تمكّن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأنّ فعل مادّة الكَوْن تدلّ على الوجود، فالإخبار به عن شيء مخبَر عنه بِغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنَّه أفاد الوجود في الزمن الماضي، وذلك مستعمل في التمكّن.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والمعنى: أعرض عن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، والدين المضاف إليهم هو عبادة الأوثان التي عبدوها كأنهم اتخذوها لعبا ولهوا، واللعب هو الفعل الذي ليس مقصد يقره أهل العقل، واللهو ما يتلهى به، ويشغل به عن الأمر الجاد المنتج المثمر، الذي يكون له غرض مقصود مطلوب، فهؤلاء في اتخاذهم الأوثان التي يصنعونها ولا تنفع ولا تضر آلهة تعبد، كأنهم يلعبون، إذ يعملون عملا لا يقره أهل العقل والإدراك، ويلهون لأنه عبث يعبثون به، ولا غاية له عند أهل الفكر والمنطق، ولا على أن يفسر الدين بما هم عليه من عبادة الأوثان... (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت). الضمير في (به) قال أكثر المفسرين: أنه يعود على القرآن والقرآن في حضور كل ذهن فكأنه مذكور يعود الضمير عليه، وأميل إلى أن الضمير الذي يعود إلى الدين الذي هم مكلفون أن يأخذوا به ويتبعوا هديه، وإن الله تعالى مع امر نبيه أن يتركهم فلا يلتفت على هزلهم وعبثهم واستهزائهم بالمؤمنين أمره بأن يستمر في تذكيرهم بالدين، تبليغا لرسالته التي أنزلت عليه، ولا يأخذونه الأذى الذي ينزلونه به وبمن معه، فذلك هو ما يصيب دعاة الحق، ولكن يجب مع الإعراض عن لعبهم ولهوهم أن يستمر في دعوته، ومثله معهم كمثل المربي الكامل الذي لا يهمه عبث تلاميذه يعرض عنه، ولكن يستمر في هدايته لهم. وذكر بالدين كراهة أن تبسل نفس بما كسبت والابتسال: معناه في اللغة الإسلام إلى الهلاك، وأن تؤخذ بسوء ما اختارت. والمعنى الجلي لا تشغل نفسك بلهوهم وعبثهم، ولا يمنعك ذلك من أن تستمر في تذكيرهم حتى لا يسلموا إلى الهلاك، ويمنعوا من الخير ويكون نصيبهم جهنم وبئس المصير، وإنك منذر ولكل قوم هاد.
قلنا – من – قبل -: إن اللعب هو الاشتغال بما لا يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لأنك لهيت عن أمر واجب عليك، فاللهو – إذن – هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة. وقوله الحق: {وغرتهم الحياة الدنيا} هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم من أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنا من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة. وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انحرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب. إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمرا طويلا، ولا أن ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر. وما نختلف فيه نحن البشر غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لابد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعا، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت، ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يجدر الانتباه هنا إِلى أن جملة (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا) هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إِنّهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفر لهم، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إِنّما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن. غير أنّنا لابدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وانعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إِنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه، كما يتبيّن من عبارة: (بما كانوا يكفرون) (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).