ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعدما تبين فقال : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } .
وقوله - سبحانه - { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء . . } معطوف على قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . . } لإِبطال معاذيرهم ، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد ، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
قال الإِمام الرازى . وقوله - تعالى - { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا ، إذا فعله بالنهار ، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول .
ويعرجون : من العروج ، وهو الذهاب في صعود ، وفعله من باب دخل ، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد ، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد .
وقوله { سكرت } من السَّكْر - بفتح السين المشددة وسكون الكاف - بمعنى السد والحبس والمنع ، يقال سكرت الباب أسْكرُه سَكْراً ، إذا سددته ، والتشديد في { سكرت } للمبالغة ، وهو قراءة الجمهور . وقرأ ابن كثير { سكرت } ، بكسر الكاف بدون تشديد .
وقوله { مسحورون } اسم مفعول من السحر ، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشئ إلى غيره .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو في الكفر والعناد ، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء ، ومكناهم من الصعود إليه ، فظلوا في ذلك الباب يصعدون ، ويطلعون على ملكوت السموات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع - لفرط عنادهم وجحودهم - إنما أبصارنا منعت من الإِبصار ، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى الله عليه وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور المفسرين ، يكون الضمير في قوله { فظلوا } يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق : أنه لو فتح لهم بابًا من السماء ، فجعلوا يصعدون فيه ، لما صدّقوا بذلك ، بل قالوا : { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا }
قال مجاهد وابن كثير ، والضحاك : سدت أبصارنا .
وقال قتادة ، عن ابن عباس : أخذت أبصارنا .
وقال العوفي عن ابن عباس : شُبه علينا ، وإنما سحرنا .
وقال ابن زيد : { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } السكران{[16095]} الذي لا يعقل .
وقرأ السبعة سوى ابن كثير : «سُكّرت » بضم السين وشد الكاف ، وقرأ ابن كثير وحده بتخفيف الكاف ، وهي قراءة مجاهد . وقرأ ابن الزهري بفتح السين وتخفيف الكاف ، على بناء الفعل لفاعل . وقرأ أبان بن تغلب «سحرت أبصارنا » ، ويجيء قوله : { بل نحن قوم مسحورون } انتقالاً إلى درجة عظمى من سحر العقل والجملة .
وتقول العرب : سكرت الريح تسكر سكوراً : إذا ركدت ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولاً ، وتقول سكر الرجل من الشراب سكراً : إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما للإنسان أن ينفذ فيه ، ومن هذا المعنى : سكران لا يبت - أي لا يقطع أمراً ، وتقول العرب : سكرت الفتق في مجاري الماء سكراً : إذا طمسته وصرفت الماء عنه ، فلم ينفذ لوجهه .
قال القاضي أبو محمد : فهذه اللفظة «سكّرت » - بشد الكاف - إذا كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح فهي فعل عدي بالتضعيف ، وإن كانت من سكر مجاري الماء فتضعيفها للمبالغة ، لا للتعدية ، لأن المخفف من فعله متعد . ورجح أبو حاتم هذه القراءة ، لأن «الأبصار » جمع ، والتثقيل مع الجمع أمثل ، كما قال : { مفتحة لهم الأبواب }{[7141]} [ ص : 50 ] ومن قرأ «سُكرت » - بضم السين وتخفيف الكاف ، فإن كانت اللفظة من سكر الماء فهو فعل متعد ؛ وإن كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح ، فيضمنا أن الفعل بني للمفعول إلى أن ننزله متعدياً ، ويكون هذا الفعل من قبيل : رجح زيد ورجحه غيره ، وغارت ، وغارت العين وغارها الرجل : فتقول - على هذا - سكر الرجل ، وسكره غيره ، وسكرت الريح ، وسكرها شيء غيرها .
ومعنى هذه المقالة منهم : أي غيرت أبصارنا عما كانت عليه ، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الشياء كما كانت تفعل .
قال القاضي أبو محمد : وعبر بعض المفسرين عن هذه اللفظة بقوله : غشي على أبصارنا وقال بعضهم عميت أبصارنا ، وهذا ونحوه تفسير بالمعنى لا يرتبط باللفظ .
ولقال أيضاً هؤلاء المبصرون عروج الملائكة ، أو عروج أنفسهم ، بعد قولهم : { سكرت أبصارنا } بل سحرنا حتى ما نعقل الأشياء كما يجب ، أي صرف فينا السحر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.