اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ} (15)

قوله { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قرأ{[3]} ابن كثير : " سُكِرَتْ " مبنياً للمفعول ، مخفَّف الكاف ، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف ، والزهري : بفتح السين{[4]} ، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل .

فأما القراءة الأولى : فيجوز أن تكون بمعنى المشددة ؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير ، وهما مأخوذتان من : السِّكر ، بكسر السين ، هو السَّدُّ .

والمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا ، وسُدَّت ، وقيل : بمعنى : أخذت ، وقيل : بمعنى : سُحِرَت ، وقيل المشدد من : سَكِرَ الماءُ بالكسر ، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم .

والمشهور أن " سَكِرَ " لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول ؟ .

فقال أبو علي{[5]} : " ويجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر " .

والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ : أنَّ " سَكِر " إن كان من : " سَكِرَ الشَّرابُ ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحُ " فالتضعيف فيه للتعدية ، وإن كان من " سَكِرَ الماءً " فالتضعيف فيه للتكثير ؛ لأنه متعد مخفَّفاً ، وذلك أنه يقال : سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً ، إذا رَكدَت ، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً ، ذا رَكَدَ ، ولم ينقد لحاجته .

فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية ، ويقال : سَكِرتُ الماء في مجاريه : إذا منعتهُ من الجَرْي ، فهذا متعدِّ ، فالتضعيف فيه للتكثير .

وأما قراءةٌ ابن كثير : فإن كانت من " سَكِرَ الماءُ " فهي واضحةٌ ؛ لأنه متعدِّ ، وإن كانت من " سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ " فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة ، ومتعدياً أخرى ، نحو : " رَجَعَ زيْدٌ " ، ورَجَعه غَيْرُه ، وسَعِدَ وسَعِدَه غَيْرُه " وقال الزمخشريُّ : " وسُكِّرَتْ : حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر ، وقرئ : " سُكرَتْ " بالتخفيف ، أي : حُبسَتْ كمَا يُحْبَسُ المُهْرُ عنِ الجري " ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محتملة لمعنى واحدٍ .

وأما قراءة الزهريِّ ، فواضحةٌ ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : أسْكرتُ المكان فَسَكرَ : أي : سَددْتهُ فانْسَدَّ .

{ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ، أي عمل فينا السِّحْرُ ، وسحرنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك ، كانت السَّفسطةٌ لازمة ، ولا يبقى حينئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة ؟ .

أجاب القاضي -رحمه الله- : بأنه –تعالى- ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات ؟ .

وأجاب : بأنه يصحُّ ذلك ، إذا جمعهم عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم ، وأيضاً : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألُوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكةِ ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم ، وكانوا قليلي العددِ ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة ، جائزٌ .

قوله : " فظلُوا " يقال : ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا : إذا فعلهُ بالنَّهارِ ، ولا تقول العربُ : " ظَلّ يَظَلْ " إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ ؛ كما لا يقولون : بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل ، والمصدر الظُّلُول .

والعُروجُ : الصُّعودُ ، يقال : عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً ، ومنه : المَعَارجُ ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها .

فإن قلنا : إن الضمير في : " فَظلُّوا " للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- : " فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوتِ الله -سبحانه وتعالى- وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته -عليهم السلام- لشكُّوا في تلك الرؤية ، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم ؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله " {[6]} .


[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.