في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ} (15)

ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون : لا . لا . ليست هذه حقيقة . إنما أحد سكر أبصارنا وخدرها فهي لا ترى إنما تتخيل :

( إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) . .

سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر ، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكر مسحور !

يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري . ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء . ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان . وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل . فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة . إنما هم قوم مكابرون . مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف !

إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير ، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير . .

وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا ، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته ، وتستغلق بصيرته ، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي ، وينقطع عن الوجود الحي من حوله ، وعن إيقاعاته وإيحاءاته .

هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها " المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .

إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ؛ ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود . . ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله ، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته ، بلا خالق ، وبلا مدبر ، وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و " أخلاقية ! " كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس ، والتي لا تنفصل عنه بحال . . " علمية " . . هي وحدها " العلمية " !

وعدم الشعور بوجود الله سبحانه ، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية ، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة :

( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا : إنما سكرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون ! ) . .

فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا ، باطنا وظاهرا ، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .

إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ؛ كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري ، كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل " العلم " في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ؛ رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !

إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته ، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا . . كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا :

يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا : " لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورةالتي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذي خلق الأشياء ودبرها .

" إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا "

وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق " العلم الحديث " - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري ، ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري ، كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود ، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ؛ أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا !

والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل ، وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) .

وإذا كانت هذه حقيقتهم ؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب " علمية ! " اجتماعية وسياسية واقتصادية ؛ وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني ؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط ، صادر عن أعمى ، معطل الحواس الأخرى ، محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ؛ فضلا على أن يكيف نظرته ، ويقيم منهج حياته ، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا !

إن هذه قضية إيمانية اعتقادية ، وليست قضية رأي وفكر ! إن الذي يقيم تفكيره ، ويقيم مذهبه في الحياة ، ويقيم نظام حياته كذلك ، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشى ء ذاته ، ومنشى ء الإنسان أيضا . . إنما يخطيء في قاعدة الفكر والمذهب والنظام ؛ فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ؛ ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم ، يقيم اعتقاده وتصوره ، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره .

ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى " الاشتراكية العلمية " منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء ! ويصبح الأخذ بما يسمى " الاشتراكية العلمية " - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام : اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما . . حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك " الاشتراكية العلمية " واحترام العقيدة في الله بتاتا . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها .

إن الناس في أي أرض وفي أي زمان ؛ إما أن يتخذوا الإسلام دينا ، وإما أن يتخذوا المادية دينا . فإذااتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا " الاشتراكية العلمية " المنبثقة من " الفلسفة المادية " ، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه ، نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام ، وإما المادية ، منذ الابتداء !

إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن " الاشتراكية العلمية " - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء ، إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من " المذهب المادي " الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا ، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى " الاشتراكية العلمية " بكل تطبيقاتها !

ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار ! ! !