{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل ، لكونه موضع الحرث ، وهو الموضع الذي يكون منه الولد .
وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر ، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث ، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك ، ولعن فاعله .
{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } أي : من التقرب إلى الله بفعل الخيرات ، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ، ويجامعها على وجه القربة والاحتساب ، وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم ، كونوا ملازمين لتقوى الله ، مستعينين بذلك لعلمكم ، { أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها .
ثم قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم ، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وكل خير واندفاع كل ضير ، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة .
وفيها محبة الله للمؤمنين ، ومحبة ما يسرهم ، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي .
ثم قال - تعالى - : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } .
روى الشيخان عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول . فأنزل الله - تعالى - قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية .
والحرث في الأصل : تهيئة الأرض بالحراثة لإِلقايء البذر فيها . وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المزروعة كما في قوله - تعالى - { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ } أي على حديقتكم لجمع ما فيها من ثمار .
وشبهت المرأة بالأرض لأن كليهما يمد الوجود الإِنساني بقائه ، فالزوجة تمده بعناصر تكوينه ، والأرض تمده بأسباب حياته .
و { أنى شِئْتُمْ } بمعنى كيف شئتم ، أو متى شئتم في غير وقت الحيض .
والمعنى : نساؤكم هن مزرع لكم ومنبت للولد ، أعدهن الله لذلك كما أعد الأرض للزراعة والإِنبات ، فأتوهن إذا تطهرن من الحيض في موضع الحرث كيف شئتم مستلقيات على ظهورهن أو غير ذلك ما دمتم تؤدون شهوتكم في صمام واحد وهو الفرج .
وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل ، ويشير إلى ذلك قوله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } إذ من شأن الحرث الصالح الانتاج وإشعار كذلك بما شرعه الله للزوجين من مؤانسة ومباسطة ويشير إلى ذلك قوله - تعالى - { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } .
ويرى صاحب الكشاف ن التشيبه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة وبين البذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه ويكون به البقاء والتوالد ، فقد قال - رحمه الله - :
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع الحرث لكم . وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور ، وقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث .
ثم قال : وقوله - تعالى - : { هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء } وقوله { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } وقوله { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } من الكنايات اللطيفة والتعريضات الحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاروتهم ومكاتبتهم .
فإن قلت : ما موقع قوله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مما قبله ؟ قلت : موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني أن المأتي الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ترجمة له وتفسيرا ، أو إزالة للشبهة ودلالة على أن الغرض الأصيل في الإِتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض " .
ثم ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين } .
أي : عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم ، بأن تختاروا في زواجكم ذات الدين ، وأن تسيروا في حياتكم الزوجية على الطريقة التي رسمها لكم خالقكم وعليكم كذلك أن تتقوه بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه ، وأن تعلموا علم اليقين أنكم ستلقونه فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكهم عليها بما تستحقون .
وقوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } بشارة طيبة لمن آمن وعمل صالحا ، وتلقى ما كلفه الله - تعالى - بالطاعة والامتثال .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد أرشدتا المسلم إلى أفضل الوسائل ، وأقوى الدعائم التي يقوم عليها صرح الحياة الزوجية والسعيدة ، والتي عن طريقها تأتي الذرية الصالحة الرشيدة ، وأن الإِسلام في تعاليمه لا يحاول أن ينكر أو يحطم غرائز الإِنسان وضرورياته ، وإنما الإِسلام يعترف بغرائز الإنسان وضرورياته ثم يعمل على تهذيبها وتقويمها بالطرق التي من شأنه إذا ما اتبعها أن يظفر بالسعادة والطمأنينة في دنياه وأخراه .
وقوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قال ابن عباس : الحرث موضع الولد { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي : كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد ، كما ثبتت بذلك الأحاديث .
قال البخاري : حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا سفيان عن ابن المنْكَدر قال : سَمعت جابرًا قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه داود{[3870]} من حديث سفيان الثوري به{[3871]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري : أن محمد بن المنكدر حدثهم : أن{[3872]} جابر بن عبد الله أخبره : أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مقبلة ومدبرة ، إذا كان ذلك في الفرج " .
وفي حديث بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : يا رسول الله ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " حرثك ، ائت حرثك أنى شئت ، غير ألا تضربَ الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في المبيت{[3873]} . الحديث ، رواه أحمد ، وأهل السنن{[3874]} .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لَهِيعة عن يزيد ابن أبي حبيب ، عن عامر بن يحيى ، عن حنش بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس قال : أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن أشياء ، فقال له رجل : إني أجبي النساء ، فكيف ترى في ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ }{[3875]} .
حديث آخر : قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه " مشكل الحديث " : حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا يعقوب بن كاسب ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس وعن يعقوب ، به{[3876]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم{[3877]} عن عبد الرحمن بن سابط قال : دخلت على حفصة ابنة{[3878]} عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت : إني سائلك عن أمر ، وإنى{[3879]} أستحيي أن أسألك . قالت : فلا تستحي يا ابن أخي . قال : عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يَجُبّون النساء ، وكانت اليهود تقول : إنه من جَبَّى امرأته كان الولد أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار ، فجبَّوهُنّ ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ، فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله ، فخرجت ، فحدثت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ادعي الأنصارية " : فدُعيَتْ ، فتلا عليها هذه الآية : " { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا " .
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن ابن خُثَيْم{[3880]} به{[3881]} . وقال : حسن .
قلت : وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، عن ابن خُثَيْم{[3882]} عن يوسف بن ماهَك ، عن حفصة أم المؤمنين : أن امرأة أتتها فقالت : إن زوجي يأتيني مُحيّيَة ومستقبلة فكرهته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا بأس إذا كان في صمام واحد " {[3883]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا يعقوب - يعني القَمي{[3884]} - عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : " ما الذي أهلكك ؟ " قال : حولت رحلي البارحة ! قال : فلم يرد عليه شيئًا . قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أقبل وأدبر ، واتق الدبر والحيضة " .
رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن حسن بن موسى الأشيب ، به{[3885]} . وقال : حسن غريب .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدين ، حدثني الحسن بن ثوبان ، عن عامر بن يحيى المعافري ، عن حَنَش ، عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } في أناس من الأنصار ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آتها على كل حال ، إذا كان في الفرج " {[3886]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج{[3887]} حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أثفر فلان امرأته ، فأنزل الله عز وجل : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3888]} .
وقال أبو داود : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد - يعني ابن سلمة - عن محمد ابن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم ، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار - وهم أهل وثن - مع أهل هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نُؤتى على حرف . فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي : مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات - يعني بذلك موضع الولد{[3889]} .
تفرد به أبو داود ، ويشهد{[3890]} له بالصحة ما تقدم من الأحاديث ، ولا سيما رواية أم سلمة ، فإنها مشابهة لهذا السياق .
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه{[3891]} عند كل آية منه{[3892]} وأسأله عنها ، حتى انتهيت إلى هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون{[3893]} النساء بمكة ، ويتلذذون بهن . . فذكر القصة بتمام سياقها{[3894]} .
وقول ابن عباس : " إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم " . كأنه يشير إلى ما رواه البخاري :
حدثنا إسحاق ، حدثنا النضر بن شميل ، أخبرنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه ، فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة ، حتى انتهى إلى مكان قال{[3895]} : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا . قال : أنزلت في كذا وكذا . ثم مضى . وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي ، حدثني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : يأتيها في . . {[3896]} .
هكذا رواه البخاري ، وقد تفرد به من هذه الوجوه{[3897]} .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا ابن عون ، عن نافع قال : قرأت ذات يوم : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر : أتدري فيم نزلت ؟ قلت : لا . قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن{[3898]} .
وحدثني أبو قلابة ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال : في الدبر{[3899]} .
وروي من حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولا يصح .
وروى النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك وجدًا شديدًا ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3900]} .
قال أبو حاتم الرازي : لو كان هذا عند زيد بن أسلم ، عن ابن عمر لما أولع{[3901]} الناس بنافع . وهذا تعليل منه لهذا الحديث .
وقد رواه عبد الله بن نافع ، عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عمر - فذكره .
وهذا محمول على ما تقدم ، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ، لما رواه النسائي أيضًا عن علي بن عثمان النفيلي ، عن سعيد بن عيسى ، عن المفضل{[3902]} بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي النضر : أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول : إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا علي ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر : إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده ، حتى بلغ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال : يا نافعُ ، هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت{[3903]} : لا . قال : إنا كنا معشر قريش نُجبِّي{[3904]} النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار ، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود ، إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }{[3905]} .
وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن الحسين بن إسحاق ، عن زكريا{[3906]} بن يحيى الكاتب العمري ، عن مفضل بن فضالة ، عن عبد الله بن عياش{[3907]} عن كعب بن علقمة ، فذكره . وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا ، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي ، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر{[3908]} وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك ، رحمه الله . وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ؛ فقال الحسن بن عرفة :
حدثنا إسماعيل بن عياش{[3909]} عن سهيل{[3910]} بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استحيوا ، إن الله لا يستحيي من الحق ، لا يحل مأتى النساء في حشوشهن " {[3911]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عبد{[3912]} بن شداد عن رجل عن خزيمة بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها{[3913]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يعقوب ، سمعت أبي يحدث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد : أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حَدَّثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي حدثه : أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يستحيي الله من الحق ، لا يستحي الله من الحق - ثلاثا - لا تأتوا النساء في أعجازهن " .
ورواه النسائي ، وابن ماجة من طرق ، عن خزيمة بن ثابت . وفي إسناده اختلاف كثير .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي ، والنسائي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الضحاك بن عثمان ، عن مَخْرمة بن سليمان ، عن كُرَيْب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب{[3914]} . وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه{[3915]} . وصححه ابن حزم أيضًا . ولكن رواه النسائي ، عن هناد ، عن وكيع ، عن الضحاك ، به{[3916]} موقوفًا .
وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها ، قال{[3917]} : تسألني عن الكفر ! [ إسناد صحيح ]{[3918]} .
وكذا رواه النسائي ، من طريق ابن المبارك ، عن معمر{[3919]} - به نحوه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى " {[3920]} .
وقال عبد الله بن أحمد : حدثني هدبة ، حدثنا همام ، قال : سُئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها . فقال قتادة : حدثنا عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هي اللوطية الصغرى " .
قال قتادة : وحدثني عقبة بن وسَّاج ، عن أبي الدرداء قال : وهل يفعل ذلك إلا كافر ؟{[3921]} .
وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو{[3922]} بن العاص ، قوله . وهذا أصح ، والله أعلم .
وكذلك رواه عبد بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن حميد الأعرج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، موقوفًا من قوله .
طريق أخرى : قال جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبد الرحمن بن زياد بن العم ، عن أبي عبد الرحمن الحُبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ، ويقول : ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل والمفعول به ، والناكح يده ، وناكح البهيمة ، وناكح المرأة في دبرها ، وجامع بين المرأة وابنتها ، والزاني بحليلة جاره ، والمؤذي جاره حتى يلعنه " {[3923]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم ، عن عيسى بن حطان ، عن مُسْلم بن سَلام ، عن علي بن طلق ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ؛ فإن الله لا يستحيي من الحق{[3924]} .
وأخرجه أحمد أيضًا ، عن أبي معاوية ، وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا ، عن عاصم الأحول [ به ]{[3925]} وفيه زيادة ، وقال : هو حديث حسن{[3926]} .
ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب ، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل{[3927]} والصحيح أنه علي بن طلق .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مُخلَّد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " .
وحدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله{[3928]} صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها " .
وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل{[3929]} .
وحدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي من طريق وَكِيع ، به{[3930]} .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا هناد ، ومحمد بن إسماعيل - واللفظ له - قالا حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " {[3931]} .
ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ، وإنما الذي فيه عن سهيل ، عن الحارث بن مخلد ، كما تقدم .
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند ، وَهْمٌ منه ، وقد ضعفوه .
طريق أخرى : رواها{[3932]} مسلم بن خالد الزِّنْجي ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى عليه وسلم قال : " ملعون من أتى النساء في أدبارهن " .
ومسلم بن خالد فيه كلام ، والله أعلم .
طريق أخرى : رواها الإمام أحمد ، وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة ، عن حكيم الأثرم ، عن أبي تميمة الهُجيْمي ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها ، أو كاهنًا فصدقه ، فقد كفر بما أنزل على محمد " {[3933]} .
وقال الترمذي : ضعف البخاري هذا الحديث . والذي قاله البخاري في حديث حكيم [ الأثرم ]{[3934]} عن أبي تميمة : لا يتابع في حديثه{[3935]} .
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا عثمان بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه ، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " استحيوا من الله حق الحياء ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3936]} .
تفرد به النسائي من هذا الوجه .
قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ : هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ، ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد ؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ، فإنما سمعه بعد الاختلاط ، وقد رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك ، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا . انتهى كلامه .
وقد أجاد وأحسن الانتقاد ؛ إلا أن عبد الملك [ بن محمد ]{[3937]} الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني ، وهو ثقة ، ولكن تكلم فيه دُحَيْم ، وأبو حاتم ، وابن حبان ، وقال : لا يجوز الاحتجاج به ، فالله أعلم . وقد تابعه زيد بن يحيى بن{[3938]} عبيد ، عن سعيد بن عبد العزيز . وروي من طريقين آخرين ، عن أبي سلمة . ولا يصح منها شيء .
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : إتيان الرجال النساء{[3939]} في
أدبارهن كفر{[3940]} .
ثم رواه ، عن بُنْدَار ، عن عبد الرحمن ، به . قال : من أتى امرأة{[3941]} في دبرها ملك{[3942]} كفره{[3943]} . هكذا رواه النسائي ، من طريق الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة موقوفًا . وكذا رواه من طريق علي بن بذيمة ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة - موقوفًا{[3944]} . ورواه بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى شيئًا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر " والموقوف أصح ، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة ، وتركه آخرون{[3945]} .
حديث آخر : قال محمد بن أبان البلخي : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - وعن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3946]} .
وقد رواه النسائي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عثمان بن اليمان ، عن زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن الهاد ، عن عمر قال : " لا تأتوا النساء في أدبارهن " {[3947]} .
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، عن زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال : قال عمر رضي الله عنه : استحيوا من الله ، فإن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن{[3948]} . الموقوف أصح .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قالا حدثنا شعبة عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن يزيد - أو يزيد بن طلق - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أستاههن " {[3949]} .
وكذا رواه غير واحد ، عن شعبة . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن علي ، والأشبه أنه علي بن طلق ، كما تقدم ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ ، حدثنا أخي أنيس بن إبراهيم{[3950]} أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره ، عن أبيه أبي القعقاع ، عن ابن مسعود ،
رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " محاش النساء حرام " {[3951]} .
وقد رواه إسماعيل بن علية ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، وغيرهم ، عن أبي عبد الله الشقري - واسمه سلمة بن تمام : ثقة - عن أبي القعقاع ، عن ابن مسعود - موقوفًا . وهو أصح .
طريق أخرى : قال ابن عدي : حدثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأتوا النساء في أعجازهن " {[3952]} محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه ، فيهما مقال .
وقد روي من حديث أبي بن كعب{[3953]} والبراء بن عازب ، وعقبة بن عامر{[3954]} وأبي ذر ، وغيرهم . وفي كل منها{[3955]} مقال لا يصح معه الحديث ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن الصَّلت بن بَهْرام ، عن أبي المعتمر ، عن أبي جويرية{[3956]} قال : سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها ، فقال : سفلت ، سَفَّلَ الله بك ! ألم تسمع إلى قول الله عز وجل : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 80 ] .
وقد تقدم قول ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك ، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه يحرمه .
قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري ، أنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدُّبر . فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟
وكذا رواه ابن وهب وقتيبة ، عن الليث ، به . وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم{[3957]} .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر{[3958]} حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس أنه قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب العبد ، أو العلج ، على أبي [ عبد الله ]{[3959]} فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع . فقيل له : فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ فذكر له الدبر . فقال ابن عمر : أف ! أف ! أيفعل ذلك مؤمن - أو قال : مسلم - فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب ، عن ابن عمر ، مثل ما قال نافع{[3960]} .
وروى النسائي ، عن الربيع بن سليمان ، عن أصبغ بن الفرج الفقيه ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد {[3961]} بن يسار ، قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري ، فنحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ قلت : نأتيهن في أدبارهن . فقال : أف ! أف ! أو يعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك : فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ، فقال : لا بأس به{[3962]} .
وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر{[3963]} كان لا يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها{[3964]} .
وروى معن{[3965]} بن عيسى ، عن مالك : أنّ ذلك حرام .
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : حدثني إسماعيل بن حصين ، حدثني إسماعيل{[3966]} بن روح : سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن : قال : ما أنتم قوم عرب . هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ، لا تعدو الفرج .
قلت : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون : إنك تقول ذلك ؟ ! قال : يكذبون علي ، يكذبون علي .
فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة . وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد بن جبر{[3967]} والحسن وغيرهم من السلف : أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فاعله{[3968]} الكفر ، وهو مذهب جمهور العلماء .
وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة ، حتى حكوه عن الإمام مالك ، وفي صحته عنه نظر .
[ وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الأحوص بن وهب إباحته ]{[3969]} .
قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال . يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاوي .
وقد روى{[3970]} الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك . ولكن في الأسانيد ضعف شديد ، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك ، فالله أعلم .
وقال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء . والقياس أنه حلال . وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب ، عن أبي سعيد الصيرفي ، عن أبي العباس الأصم ، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول . . . فذكر . قال أبو نصر الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد كذب - يعني ابن عبد الحكم - على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة{[3971]} كتب من كتبه ، والله أعلم .
وقال القرطبي في تفسيره : وممن ينسب إليه هذا القول - وهو إباحة وطء المرأة في دبرها - سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون . وهذا القول في العتبية . وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر ، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في العتبية ، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال : وحكى الكيا الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } الشعراء : [ 165 ، 166 ] .
يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق الله لهم من فروج النساء لا أدبارهن قلت : وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ . وقد صنف الناس في هذه المسألة مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار .
وقوله تعالى : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } أي : من فعل الطاعات ، مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات ؛ ولهذا قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } أي : فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : المطيعين لله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه{[3972]} زجرهم .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن عطاء - قال : أراه عن ابن عباس - : { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } قال : يقول : " باسم الله " ، التسمية عند الجماع .
وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جَنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا " {[3973]} .
{ نساؤكم حرث لكم } مواضع حرث لكم . شبههن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور { فأتوا حرثكم } أي فائتوهن كما تأتون المحارث ، وهو كالبيان لقوله تعالى : { فأتوهن من حيث أمركم الله } { أنى شئتم } من أي جهة شئتم ، روي ( أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ) . { وقدموا لأنفسكم } ما يدخر لكم من الثواب . وقيل هو طلب الولد . وقيل التسمية عند الوطء . { واتقوا الله } بالاجتناب عن معاصيه . { واعلموا أنكم ملاقوه } فتزودوا ما لا تفتضحون به . { وبشر المؤمنين } الكاملين في الإيمان بالكرامة والنعيم الدائم . أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم .
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 223 )
وقوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } الآية( {[2119]} ) ، قال جابر بن عبد الله والربيع : سببها أن اليهود قالت : إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، وعابت على العرب ذلك ، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم( {[2120]} ) ، وقالت أم سلمة وغيرها : سببها أن قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة ، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك ، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتشر كلام الناس في ذلك ، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث ، و { حرث } تشبيه ، لأنهنّ مزدرع الذرية ، فلفظة «الحرث » تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة ، إذ هو المزدرع( {[2121]} ) ، وقوله { أنى شئتم } معناه عند جمهور العلماء من صحابة وتابعين وائمة : من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ، و { أنى } إنما تجيء سؤالاً أو إخباراً عن أمر له جهات ، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى ، هذا هو الاستعمال العربي( {[2122]} ) ، وقد فسر الناس { أنّى } في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبويه ب «كيف » ومن أين باجتماعهما ، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين » إلى أن الوطء في الدبر جائز ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر( {[2123]} ) ، وروي عنه خلافه وتكفير من فعله ، وهذا هو اللائق به ، ورويت الإباحة أيضاً عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر ، ورواها مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر ، وروي عن مالك شيء في نحوه ، وهو الذي وقع في العتبية ، وقد كذب ذلك على مالك ، وروى بعضهم أن رجلاً فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس فيه ، فنزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال : «إتيان النساء في أدبارهن حرام » ، وورد عنه فيه أنه قال : «ملعون من أتى امرأة في دبرها »( {[2124]} ) ، وورد عنه أنه قال : «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد »( {[2125]} ) ، وهذا هو الحق المتبع ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، والله المرشد لا رب غيره( {[2126]} ) .
وقال السدي : معنى قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } أي الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به ، وقال ابن عباس : «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع » ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره »( {[2127]} ) ، وقيل : معنى { قدموا لأنفسكم } طلب الولد ، { واتقوا الله } تحذير ، { واعلموا أنكم ملاقوه } خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم( {[2128]} ) ، { وبشر المؤمنين } تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى .