المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

40- يا أيها المؤمنون ، إن لم تنصروا رسول الله فإن الله كفيل بنصره ، كما أيَّدَه ونصره حينما اضطره الذين كفروا إلى الخروج من مكة . وليس معه إلا رفيقه أبو بكر ، وكان ثاني اثنين ، وبينما هما في الغار مختفين من المشركين الذين يتعقبونهما خشي أبو بكر على حياة الرسول ، فقال له الرسول مطمئناً : لا تحزن فإن الله معنا بالنصر والمعونة . عند ذلك أنزل الله الطمأنينة في قلب صاحبه ، وأيَّد الرسول بجنود من عنده ، لا يعلمها إلا هو سبحانه . وانتهي الأمر{[82]} بأن جعل شوكة الكافرين مفلولة ودين الله هو الغالب ، والله متصف بالعزة فلا يقهر ، وبالحكمة فلا يختل تدبيره .


[82]:الغار الذي اختفي فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه كان بجبل ثور، وهو جبل قريب من مكة وقد أقاما به ثلاثة أيام، وخرجا منه بليل بعد أن علما أن الطلب لهما قد سكن، ووصلا إلى المدينة لثمان خلت من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

{ 40 } { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي : إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاللّه غني عنكم ، لا تضرونه شيئا ، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله ، وسعوا في ذلك ، وحرصوا أشد الحرص ، فألجؤوه إلى أن يخرج .

{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي : هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه . { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي : لما هربا من مكة ، لجآ إلى غار ثور{[371]} في أسفل مكة ، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب .

فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما ، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال .

{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه ، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده .

{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : الثبات والطمأنينة ، والسكون المثبتة للفؤاد ، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }

{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وهي الملائكة الكرام ، الذين جعلهم اللّه حرسا له ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي : الساقطة المخذولة ، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين ، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذه ، حنقين عليه ، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك ، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم ، بل ولا أدركوا شيئا منه .

ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه ، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع ، فإن النصر على قسمين : نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا ، وقصدوا ، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم .

والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر ، فنصر اللّه إياه ، أن يرد عنه عدوه ، ويدافع عنه ، ولعل هذا النصر أنفع النصرين ، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع .

وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية ، هي العالية على كلمة غيره ، التي من جملتها قوله : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، بالحجج الواضحة ، والآيات الباهرة والسلطان الناصر .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب ، ولا يفوته هارب ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر ، اقتضته الحكمة الإلهية .

وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة ، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة ، والصحبة الجميلة ، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة ، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، كافرا ، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها .

وفيها فضيلة السكينة ، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة ، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه ، وثقته بوعده الصادق ، وبحسب إيمانه وشجاعته .

وفيها : أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين ، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه ، فإنه مضعف للقلب ، موهن للعزيمة .


[371]:في أ: (إلى غار حراء)، وفي ب: عدلت إلى: (غار ثور) وهو الصحيح فيبدو -والله أعلم- أنه سبق قلم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

ثم ذكرهم ، سبحانه ، بما يعرفونه من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث نصره الله . تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده بجنود لم يروها فقال ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } .

قال ابن جرير . هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .

والمعنى : إنكم ، أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه . فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ، وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة { ثَانِيَ اثنين } أى : أحد اثنين . والثانى : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه .

يقال . فلان ثالث ثلاثة ، أو رابع أربعة . . أى : هو من الثلاثة أو من الأربعة .

فإن قيل : فلان رابع ثلاث أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته اليهم ، أو صير الأربعة خمسة .

وأسند سبحانه الإِخراج إلى المشركين مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله .

قيل : وجواب الشرط في قوله ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } محذوف وقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } تعليل لهذا لمحذوف .

والتقدير : إلا تنصروه ينصره الله في كل حال . { فَقَدْ نَصَرَهُ } سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بدله ولم يكن معه سوى رجل واحد .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت . كيف يكون قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط ؟ .

قلت " فيه وجهان " أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد . ولا أقل من الواحد ، فدل بقوله . { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت .

والثانى . أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده .

وقوله : { ثَانِيَ اثنين } حال من الهاء في قوله { أَخْرَجَهُ } أى اخرجه الذين كفروا حال كونه منفرداً عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه .

وقوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } بدل من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .

والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . والمراد به هنا : غار جبل ثور . وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام .

وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بدل ثان من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .

أى : لا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار ، ووقت أن كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لصاحبه الصديق :

" لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته " .

وذلك أن أبا بكر وهو مع النبى - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، أحسن بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا شديداً لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك ، أخذ في تسكين روعة وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن إن الله معنا .

أخرج الشيخان " عن أبى بكر قال . نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت . يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قديمه ، فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا " " .

وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لما أحاط الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحفظ والرعاية .

والسكينة : من السكون ، وهو ثبوت الشئ ؛ بعد التحرك . أو من السكن - بالتحريك - وهو كل ما سكنت إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم .

والمراد بها هنا : الطمأنينة التي استقرت في قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه .

والمراد بالجنود المؤيدين له . الملائكة الذين أرسلهم - سبحانه - لهذا الغرض : والضمير في قوله : { عَلَيْهِ } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم .

أى . فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه .

ويرى بعضهم أن الضمير في قوله { عَلَيْهِ } يعود إلى ابى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة . وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف .

وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الضمير فيه لا يصح إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله { عَلَيْهِ } عائداً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يحصل تفكك في الكلام .

أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ، وللدلالة على علو شأنه - صلى الله عليه وسلم .

قال ابن كثير قوله { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أى . تأييده ونصره عليه أى .

على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أشهر القولين . وقيل . على أبى بكر .

قالوا : لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تزل معه سكينة . وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ، ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } أى : الملائكة .

وقوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة .

والمراد بكلمة الذين كفروا . كملة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهى اتفاقهم على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

والمراد بكلمة الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإِسلام ، وما يترتب على اتباع هذا لدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى . المقهورة الذليلة . وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإِسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة .

وقراءة الجمهور برفع . { كَلِمَةَ } على الابتداء . وقوله { هِيَ } مبتدأ ثان : وقوله : { العليا } خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول .

ويجوز أن يكون الضمير { هِيَ } ضمير فصل ، وقوله { العليا } هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب { وَكَلِمَةُ الله } بالنصر عطفاً على مفعول جعل وهو { كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } .

أى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا .

قالوا : وقراءة الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الأسمية تدل . على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهى قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حالة معينة . بخلاف علو غيرها فهو ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حال معينة ، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك .

وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .

أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يقهر قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر ، { وَحَكِيمٌ } في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في أفعاله .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .

ومما يشهد لذلك ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة .

ولقد أظهر الصديق - رضى الله عنه - خلال مصاحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير من ألوان الوفاء والإِخلاص وصدق العقيدة .

قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر . . فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا كبر . . فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } الآية .

ولأن فيها النص على صحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في قوله { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } وهذا مما وقع عليه الإِجماع .

ومن هنا قالوا : من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإِنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .

وقد ساق الإِمام الرازى ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجهاً في فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، فارجع إليهما إن شئت .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

يقول تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ } أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ] } {[13513]} أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول ، عليه السلام{[13514]} منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن في الغار : لو أن أحدهم{[13515]} نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .

أخرجاه في الصحيحين{[13516]} ولهذا قال تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } أي : الملائكة ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }

قال ابن عباس : يعني { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الشرك و { كَلِمَةُ اللَّهِ } هي : لا إله إلا الله .

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[13517]} وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يُضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله .


[13513]:- زيادة من ك.
[13514]:- في ك : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[13515]:- في ت : "أحدا".
[13516]:- المسند (1/4) وصحيح البخاري برقم (3653) وصحيح مسلم برقم (2381).
[13517]:- صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

{ إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره . { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج . وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال . { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا . { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني . { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة . روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ) . وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه . { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب . { عليه } على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا . { وأيّده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر . { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل . { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره .