112- إن أوصاف أولئك الذين باعوا أنفسهم للَّه بالجنة أنهم يكثرون التوبة من هفواتهم إلى اللَّه ، ويحمدونه على كل حال ، ويسعون في سبيل الخير لأنفسهم ولغيرهم ، ويحافظون على صلواتهم . ويؤدونها كاملة في خشوع ، ويأمرون بكل خير يوافق ما جاء به الشرع ، وينهون عن كل شر يأباه الدين ويلتزمون بشريعة اللَّه ، وبشر - أيها الرسول - المؤمنين .
{ 112 } { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
كأنه قيل : من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات ؟ فقال : هم { التَّائِبُونَ ْ } أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات .
{ الْعَابِدُونَ ْ } أي : المتصفون بالعبودية للّه ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين .
{ الْحَامِدُونَ ْ } للّه في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار .
{ السَّائِحُونَ ْ } فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك .
{ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ْ } أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود .
{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ْ } ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات .
{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ } وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه .
{ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ْ } بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ْ } لم يذكر ما يبشرهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن .
وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه .
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة فقال : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون . . . } .
قال الجمل ما ملخصه : ذكر الله - تعالى - في هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين ، الستة الأولى منها تتعلق بمعاملة الخالق ، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والوصف التاسع يعم القبيلتين .
وقوله : { التائبون } فيه وجوه من الأعراب منها : أنه مرفوع على المدح . فهو خبر لمبتدأ محذوف وجوباً للمبالغة في المدح أى : المؤمنون المذكورون التائبون ، ومنها أن الخبر هنا محذوف ، أى : التائبون المصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة . .
والمعنى : " التائبون " عن المعاصى وعن كل ما نهت عنه شريعة الله ، " العابِدون " لخالقهم عبادة خالصة ولجهه ، " الحامدون " له - سبحانه - في السراء والضراء ، وفى المنشط والمكره ، وفى العسر واليسر ، " السائحون " في الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله . والعمل على مرضاته { الراكعون الساجدون } لله - تعالى - عن طريق الصلاة التي هي عماد الدين وركنه الركين " الآمرون " غيرهم " بالمعروف " أى : بكل ما حسنه الشرع " والناهون " له " عن المنكر " الذي تأباه الشرائع والعقول السليمة ، { والحافظون لِحُدُودِ الله } أى : لشرائعهم وفرائضه وأحكامه وآدابه . . هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، بشرهم . يا محمد . بكل ما يسعدهم ويشرح صدورهم ، فهم المؤمنون حقاً ، وهم الذين أعد الله - تعالى - لهم الأجر الجزيل ، والرزق الكريم .
ولم يذكر - سبحانه - المبشر به في قوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } ، للاشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به الوصف ، ولا تحده العيارة .
ولم يذكر - سبحانه - في الآية لهذه الأوصاف متعلقاً ، فلم يقل " التائبون " من كذا ، لفهم ذلك من المقام ، لأن المقام في مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله ، تعالى . فصاروا ملتزمين طاعته في كل أقوالهم وأعمالهم .
وعبر عن كثرة صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله . { الراكعون الساجدون } للاشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس . وإنما عطف النهى عن المنكر على الأمر بالمعروف للإِيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب ، أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل ، والنهى عن المنكر طلب ترك أو كف .
وكذلك جاء قوله . { والحافظون لِحُدُودِ الله } بحرف العطف ومما قالوه في تعليل ذلك . أن سر العطف هنا التنبيه على أن ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفاً ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله بالإِجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه .
هذا ، وما ذركناه من أن المراد بقوله : " السائحون " أى : السائرون في الأرض للتدير والاعتبار والتفكر في خلق الله ، والعمل على مرضاته .
. هذا الذي ذكرناه رأى لبعض العلماء . ومنهم من يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم : المجاهدون .
قال الآلوسى : وقوله : " السائحون " أى الصائمون . فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين . وجاء عن عائشة : " سياحة هذه الأمة الصيام " .
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ، وليس في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سياحة إلا الهجرة .
وعن عكرمة أنهم طلبة العمل ، لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه .
وقيل : هم المجاهدون في سبيل الله ، لما أخرج الحاكم وصححه والطبرانى وغيرهما ، " عن أبى أمامة أن رجلا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السياحة فقال : إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله " . والذى نراه أقرب إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون في الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم . كتحصيل العلم ، والجهادفى سبيل الله ، والتدبر في ملكوته - سبحانه - والتفكر في سنته في كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب .
ولعل ما يؤيد ذلك أن لفظ " السائحون " معناه السائرون ، لأنه مأخذو من السيح وهو الجرى على وجه الأرض ، والذهاب فيها . وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر .
وما دام الأمر كذلك فمن الأولى حملا للفظ على ظاهره ، ما دام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع من حمل اللفظ على حقيته وظاهره .
أما الأحاديث والآثار التي اشتشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء الحديث .
قال صاحب المنار : وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مروفوعاً وموقوفاً حديث : " السائحون هم الصائمون " لا يصح رفعه . .
وفضلا عن كل هذا ، فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم . . . يتناول الجهاد في سبيل ، كما يتناول الرحلة في طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير .
وما أكثر الآيات القرآنية التي حضت على السير في الأرض ، وعلى التكفر في خلق الله ، ومن ذلك قوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } وقوله تعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } قال الإِمام الرازى : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإِنسان يلقى الأكابر من الناس ، يفتخر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتقع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله . تعالى . في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته . وبالجلمة فالسياحة لها آثار قوية في الدين .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة :
( التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله ) . .
( التائبون ) . . مما أسلفوا ، العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى اللّه فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
( العابدون ) . . المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
( الحامدون ) . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ؛ وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .
( السائحون ) . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول : إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول : إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول : إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول : إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر : ( إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . . ) . . فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك
( الراكعون الساجدون ) . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه ، فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . . ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم ؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده ، وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . . والذين آمنوا بمحمد - [ ص ] - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل ! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
( والحافظون لحدود اللّه ) . . وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ؛ وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . . والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم !
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى اللّه ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده وغايته ووجهته . وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل للّه والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالاته . قتال في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ؛ وقتل لأعداء اللّه الذين يحادون الله ؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .
وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة اللّه ، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . . ثم الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . . . وصدق اللّه . وصدق رسول اللّه . .
اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] فكان أصلها الجر ، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية ، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً ، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى .
ف { التائبون } مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقترافِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } [ التوبة : 117 ] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } [ التوبة : 74 ] بعد قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] الآية المتقدمة آنفاً . وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك ، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه . وبذلك فارق النعت المنعوت وهو { المؤمنين } [ التوبة : 111 ] .
و{ العابدون } : المؤدّون لما أوجب الله عليهم .
و{ الحامدون } : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له .
و{ السائحون } : مشتق من السياحة . وهي السير في الأرض . والمراد به سير خاص محمود شرعاً . وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره ، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد . وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج .
و{ الراكعون الساجدون } : هم الجامعون بينهما ، أي المصلون ، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود .
و{ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } : الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه . وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات ، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين ، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله : { الراكعون الساجدون } ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض . ثم لما ذكر { الراكعون الساجدون } علم أن المراد الجامعون بينهما ، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين . ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط ، قال تعالى في شأن داود عليه السلام : { وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] ، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى ، قال تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ] . ولما جاء بعده { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما { الراكعون الساجدون } فالواو هنا كالتي في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التوبة : 112 ] .
و{ الحافظون لحدود الله } : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها . وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع . ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا ، أي والحافظون لما عين الله لهم ، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله .
وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر . فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } في سورة البقرة ( 229 ) . ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف . وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف .
وقال جمع من العلماء : إن الواو في قوله : { والناهون عن المنكر } واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن ، وسمَّوها واوَ الثَّمانية . قال ابن عطية : ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . وأنكرها أبو علي الفارسي . وقال ابن هشام في « مغني اللبيب » « وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن المفسرين كالثعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية ، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف ، واستدلُّوا بآيات إحداها : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] . ثم قال : الثانية آيةُ الزمر ( 71 ) إذ قيل : { فُتحت } في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة ، { وفتحت } [ الزمر : 73 ] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية . ثم قال : الثالثة : { والناهون عن المنكر } فإنه الوصف الثامن . ثم قال : والرابعة : { وأبكاراً } في آية التحريم ( 5 ) ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي . . . وأما قول الثعلبي : أن منها الواو في قوله تعالى : { سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه . وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض .
وقال ابن عطية « وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة ، فهكذا هي لغتهم . ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو » اه .
وأقول : كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً ، وتوجيهاً ونقضاً . والوجه عندي أنه استعمال ثابت ، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها . ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة .
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى : { وفُتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية ، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية . وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر { حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] .
وجملة : { وبشر المؤمنين } عطف على جملة { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] عطفَ إنشاء على خبر . ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوفِ عليه العمل به فأشبه الأمر . والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي . فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] .